رأي ومقالات

د. عبدالوهاب الأفندي : اختطاف مراسلي «الجزيرة» في مصر


[JUSTIFY](1) تناولنا في مداخلات سابقة ملامح الفرق الجوهري بين حكم القانون وحكم الغوغاء، من جهة، وبين الحكومة والعصابة من جهة أخرى. فحكم القانون يسري على الحكومة قبل المواطن، ويخلق حالة من الاطمئنان بين الناس، بينما حكم الغوغاء هو حالة خوف دائمة. بنفس القدر، فإن تصرف عصابات المافيا وغيرها من المنظمات الخارجة على القانون يختلف جذرياً عن الحكومات، رغم التشابه في بعض الملامح. فالحكومات تجمع الأموال قسراً من المواطنين، وكذلك تفعل العصابات؛ والعصابات توفر «الحماية» لأوليائها، وتبطش بالخارجين على إرادتها وسلطانها، وكذلك تفعل العصابات. إلا أن الفرق هو أن الدول توفر الحماية للأبرياء وفق القيم المتعارف عليها، ولا تعاقب سوى المعتدين، أما العصابات فإنها تعاقب الأبرياء وتحمي المجرمين.

(2) هناك مقولة قديمة ترى أنه لا فرق في حقيقة الأمر بين الحاكم وزعيم العصابة، كما ورد في القصة المشهورة حول القرصان الذي اعتقله جنود الاسكندر فواجه الامبراطور بقوله: ألأنني أقرصن بسفينة واحدة أعتبر مجرماً، بينما أنت تفعل الشيء نفسه بأسطول كامل وتسمي نفسك امبراطوراً!! وقد تمت إعادة ترداد هذه المقولة بصيغ مختلفة في العصر الحديث، كما في الدعوى الماركسية بأن الدول الرأسمالية هي عبارة عن «عصابة» ترعى مصالح الطبقة الرأسمالية، وأيضاً في توصيف بعض المنظرين، مثل شارلز تيلي، لنشأة الدولة الحديثة في أوروبا الغربية بأنها كانت في بدء أمرها تشبه العصابة.

(3) وهناك بالقطع أوجه شبه، خاصة في حال السلطات الاستعمارية. ولكن في حقيقة الأمر، هناك فرق كبير، حتى بين الأنظمة المسبتدة والعصابة، وهو فرق ينكشف بوضوح حين تنهار الدول كما شهدنا في الصومال وقبل ذلك ليبيريا وسيراليون، ويتوزع سلطانها بين عصابات مارقة. فحتى تحت حكم باطش مثل حكم سياد بري، كانت غالبية المواطنين آمنة في معاشها، وكان هناك اقتصاد وتجارة وتعليم وصحة، إلخ. وحتى النظم الاستعمارية كانت ترسي أسس نظام معين تتواصل الحياة في ظله.

(4) في بعض الدول العربية اليوم، مثل العراق وسوريا ومصر، تنعم الشعوب بالحسنيين: نظام يتصرف كعصابة، وعصبات تتصرف كنظام. وفي الحالة المصرية، تحولت الدولة إلى عصابة لا تلتزم بقانون، حيث تقوم باختطاف واحتجاز، بل وقتل المواطنين، بدون مجرد التظاهر بالالتزام بالقانون. وكما أن عصابات المافيا دأبت على شراء ذمم القضاء والشرطة والساسة، فإن نظام مصر ذهب خطوة أبعد، فقام باختطاف الجهاز القضائي والشرطة والإعلام والخدمة المدنية، وأصبح ينفذ إرادة زعماء العصابة عبر هذه المؤسسات الأسيرة.

(5) الإشكال طبعاً أن هذا ليس فيلم «الماتريكس»، حيث تنطلي هذه الحيلة على كل أهل الأرض. فمصر ليست سوى نقطة صغيرة في المحيط العالمي، وكل الناس خارج الماتريكس يرون الفرعون عارياً بدون ثياب، رغم أن الإعلام المصري يهلل ويزغرد للحلل البهية التي يرفل فيها، وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون.

(6) في هذا المجال، فإن اختطاف مراسلي الجزيرة في بر مصر يجسد معضلة العصابة المهيمنة في المحروسة ويشكل أبلغ تعبير عن محنتها. فقد تم اختطاف الطاقم تحديداً حتى لا ينشر صور الفرعون العاري على الملأ، وأيضاً كوسيلة ابتزاز لقناة الجزيرة (والابتزاز هو سلاح كل العصابات ومصدر رزقها الأول). ولكن العصابة وقعت في شر أعمالها، لأنها بفعلها هذا كشفت ما كانت تريد أن تخفيه، وبثت بنفسها الصورة التي لم تسمح لطاقم الجزيرة بالتقاطها من الأساس.

(7) المفارقة هي أن طاقم الجزيرة اعتقل قبل أن يصور أو يبث أي برامج، مما يشي بأن خوف العصابة السرية التي تحكم مصر كان من مجرد محاولة تقصي الحقائق حول ما يقع في بر مصر. وهذا يؤكد بدوره أن مختطفي مصر يعلمون قبل غيرهم أن ما يقع في البلد المختطف أمر مخجل يجب حجبه عن عيون وعقول الناس، وكفي بها إدانة للذات. فلو كان الأمر كما يقولون سمن على عسل وديمقراطية والموت حباً في السيسي، ألم يكن من مصلحة العصابة السماح لكل صحافة العالم بالتوافد على مصر حتى تنقل لعيون العالم هذه المعجزة الديمقراطية وهذا القضاء المستقل، ويا حلاوة؟!

(8) الورطة الأخرى التي وقعت فيها عصابة بر مصر هو أنها اختطفت شخصاً من قريش، ولم تظفر بمصري لا ناصر له من أهل الأرض، بعد أن تنكرت له حكومته، وهي على كل أعجز من أن تنصره لو كان ولياً واختطفته عصابة أخرى كما يحدث لمصريين كثر في الخليج وغيره. فالمصريون هذه الأيام ليسوا من مازن، للأسف! ولهذا الصحافي قبائل من مضر وتغلب وذبيان تقف إلى جانبه، ولا ترضى هوانه. وبعض هؤلاء كان حاضراً في قاهرة المعز، حيث سلم الفرعون عطايا ومنح. ومن يأخذ المنح لا يتبجح بسيادة أو يستظل بها، ولا يتبجح بقضاء مستقل، وقد كان رئيس المحكمة الدستورية يأتمر بأمره هو يلبس حلة الرئاسة زوراً وبهتاناً مثل خلفاء بني العباس أيام السلاجقة. ففي مصر، يأتمر القضاء بأمر المشير، ويأتمر المشير بأمر البيت الأبيض. وبالتالي ليبشر صحافيو الجزيرة بقرب إطلاق سراح. فالعصابات لا تحترم القانون ولا تحفل به، ولكنها تعرف موقفها حين تواجه بعصابة أقوى وتسمع تهديداتها!

(9) لمراسلي الجزيرة كذلك قبيلة أعز من مضر واشنطون ومازن كانبيرا، لأنهم من قبيلة الصحافيين، وعداوة الصحافيين بئس المقتني كما قال كبيرهم أبو الطيب في زمان غير هذا الزمان. فقد أدى اعتقال وإدانة الصحافيين إلى عين ما كانت تخشاه عصابة القاهرة، لأن كل الصحافة الحرة في العالم تضامنت مع المختطفين، والآن سينقلب سحر الابتزاز على ساحره. فبينما كان الغرض من اعتقال الصحافيين تخويف الإعلام وابتزازه حتى لا يكشف حيقيقة ما يجري في مصر، فإن الحكم وحده كان كافياً لفضح المستور وكشف الخفي، وهم لم يكن خفياً على أي حال. ومن الآن فصاعداً، فإن كل إمكانات الصحافة الدولية الهائلة ستكرس خلال ما بقي من فترة سجن الصحافيين لكشف كل عورات حكام مصر ومن حالفهم، وهي كثيرة. ولن يوجد صحافي يفكر مرتين قبل أن يقول الحقيقة عن مصر. وحقاً، إن أمضى سلاح ضد الطغاة هو غباوهم، فهم يكشفون عوراتهم بانفسهم لأنهم من جهلهم يعتقدون أن العورات محاسن!

القدس العربي
د. عبدالوهاب الأفندي
[/JUSTIFY]