رأي ومقالات

اسامة عيدروس: تجديد الدين عشان شنو؟


رفعت الحركة الاسلامية منذ زمن بعيد شعارات تجديد الدين في مقابل التدين الجامد من أجل تنزيل قيم الدين في واقع الحياة للمسلمين اليوم. أول ما واجه الحركة الاسلامية هو مشكلة الدولة القطرية والتي تتحدى قيم أساسية لدى المسلمين مثل مفهوم المواطنة مقابل مفهوم الأمة والولاء والبراء. والواقع أن الدولة القطرية هي دولة علمانية بامتياز حيث أن الحدود القطرية لا رابطة الدين هي التي تحدد العلاقة بين المواطنين والاجانب وكذلك فان هذه الدولة تحتكم لدستور وقوانين وضعية ..نعم وضعية ..حتى ولو تم استنباطها جميعا من الشريعة الاسلامية ..فهي في النهاية تخضع للاجازة من قبل هيئة تشريعية يمكن أن تجيز وتعدل هذه القوانين لتصبح بعدها نافذة ليس بسبب كونها قوانين مستمدة من الشريعة ولكن بسبب أنها أجيزت بواسطة الهيئة التشريعية ..كما أن هذه القوانين وليس الهدي القرآني هي التي تلزم القضاة في اصدارهم للاحكام…كما أنها أي هذه القوانين تدور في فضاء محدد بسبب التزام الدولة بكونها جزء من المنظومة الدولية ومعاهداتها التي تجبر الدول على اعادة ضياغة قوانينها لتتماشى مع المواثيق الدولية كاستحقاق أولي قبل قبول هذه الدول في المنظومة الدولية…وهذه نقاط بسيطة من عدة نقاط أخرى تؤكد أن الدولة القطرية هي مولود علماني بامتياز وأن على الحركات الاسلامية التعامل معها كما هي فهي جاءت لتبقى زمنا طويلا قادما من عمر الانسانية.
ارتضت الحركة الاسلامية السودانية الدولة القطرية كمجال لعملها وفصلت نفسها من التنظيم العالمي للاخوان المسلمين. ولكن هل كان هذا عن قناعة مبدئية كالتي تظهر بقوة لدى الشيخ راشد الغنوشي؟ الواقع يقول ان الحركة الاسلامية ارتضت الدولة القطرية كميدان لعملها ولكنها لم تلتزم بكل المباديء التي تحكم العمل في داخل الدولة القطرية خصوصا تلك المتعلقة بالحقوق والمستمدة في هذه الحالة من المواطنة وليست من أخوة الدين.
كان الانقلاب على الحكم في 89 مؤشرا على أن الحركة الاسلامية رغم دعوتها للتجديد الا أنها ظلت سلفية في التفكير بان الدولة القطرية شر لابد منه..وأنها مثلها مثل غيرها من الحركات السلفية تؤمن بالحاكمية المقدمة على المواطنة وبالتالي فهي ترى لنفسها حقوقا أعلى في استلام السلطة من أجل أسلمة المجتمع وتحويل الدولة الى دولة اسلامية. وهي في ذلك لا تعتد بالمشاركين الاخرين في الوطن ولا تعتد بمواطنتهم الا بقربهم أو بعدهم عن الحركة الاسلامية نفسها ومشروعها في أسلمة الدولة والمجتمع. وتحولت الدولة القطرية هنا الى حاضن للدولة الاسلامية حتى يتمكن الاسلاميون ويصبحون قادرين على فرض رؤيتهم للدولة والمجتمع والعالم على الاخرين. وبهذا يرجعون من جديد الى أصولهم التي طالبوا بتجديدها وهي الاصول التي تنتمي الى فقه الولاء والبراء وتكسير حدود الدولة القطرية لنصنع حدود الامة الاسلامية…ببساطة تحولت الحركة الاسلامية الى داعش ورجعت الى قواعدها سالمة.
الدعوات الكثيرة المطالبة بالحرية والديمقراطية في أوساط الاسلاميين هي قطعا تقدم كبير في الفهم أجبرتهم المفاصلة على المراجعة والتفكير فيه…ولكن الواقع يقول أن الاسلاميين مازالوا يسعون الى دولة الخلافة الراشدة ويتجنبون دائما طرح القضايا الرئيسية التي تشكل مفاصلة حقيقية مع الفهم السائد داخل الحركة الاسلامية ويرتاحون في الاستناد الى المسلمات التي ترضي الذات دون أن تصل الى غور الحقائق. الحركة الاسلامية ما زالت هي داعش وان لم تقم بمبايعة شيخها/شيوخها ..خليفة للمسلمين

(اليوم أكملت لكم دينكم) تدل هذه الآية على أن الاسلام لا يحتاج لنبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج لوحي اضافي للقرآن الكريم فهو دين مكتمل وجب على الناس الايمان به. لكن اكتمال الدين هنا قطعا لا يشير الى أنه بمجرد الاسلام يصبح الانسان حاملا للدين باكتماله أو أنه يصل الى كمال الوصف باعتباره مسلما عارفا لكل الدين. المجتمع الأول للمسلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشربوا هذا الدين واكتمل بناؤه في نفوسهم لبنة لبنة (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلى ما بعدها حتى نعمل بهن ) وروي عنه أنه حفظ سورة البقرة في تسع سنين وذلك ليس للإنشغال عن الحفظ أو رداءة الفهم ولكن بسبب التدقيق والتطبيق). وبعد اكتمال الدين في حجة الوداع التي أعقبتها وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نصوصا ووحيا واكتمال الدين في نفوس صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وبناء أول مجتمع مسلم، جاء انطلاق المسلمين لبناء أول حضارة اسلامية. وتجدني هنا أخالف الكثير من المستشرقين وكذلك أصحاب التفسير المادي لنهضة المسلمين في أن الدافع الايماني الموجود في ثنايا الدين وكذلك طبيعة الشمول في الاسلام هما أقوى اسباب انطلاق النهضة وبناء الحضارة الاسلامية بعيدا عن أي ظروف طبيعية في البيئة الداخلية للجزيرة العربية أو في العالم القديم يمكن أن تفسر نهضة عرب الجزيرة وقبائلها. فالاسلام صالح لكل زمان ومكان ليس كشعار ولكن الدافع الايماني القوي وطبيعة الدين الاسلامي يمكن أن تقود الى نفس النتائج إذا وصل الدين الى تمام كماله في نفوس المسلمين.
لقد كانت الفترة التي أمر المسلمين فيها بكف أيديهم ليست فترة تربية روحية فقط ولكنها كانت فترة الانتقال التي جهزت العقول المسلمة الى المفاصلة مع الماضي والانفتاح نحو مفاهيم عالمية تنقلهم الى رسل للدعوة الى العالم أجمع (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد ومن جور الاديان الى عدل الاسلام ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والاخرة) لقد كان الاستعداد الذهني والعقلي والمفارقة مع النمط السائد في المجتمع العربي القديم لازمة أساسية لانتاج عقل جمعي مهيأ لينقل الانسانية الى رحابة الاسلام والتخلي عن كل ما يقعد العقل من روابط قبلية ومجتمعية وثقافية سادت قبل الاسلام.

تجدني دوما أسيرا للعنوان (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) فالذي انحط هم المسلمون بينما بقى الاسلام على كماله وتمامه، وفي العصر الحديث الذي تطورت فيه الحضارة الانسانية وقدمت قيما رفيعة لمجتمعاتها انقلبت الصورة حتى صارت المجتمعات الغربية أقرب لصورة الاسلام في كماله بينما تراجعت القيم في المجتمعات المسلمة بصورة متزامنة مع تراجعها في ميدان الكسب والتطور للحضارة المعاصرة ومنجزاتها المادية والمعرفية. وقد تزامنت فترة التحرر من الاستعمار مع حركات التنوير الاسلامي بمختلف أشكالها السلفية والسلفية الجهادية والصوفية وحزب التحرير وحركات الاخوان المسلمين وتفرعاتها في مختلف انحاء العالم الاسلامي. ورغم أن هذه الحركات جميعها ضد التغريب والذي تنظر إليه باعتباره نمطا غريبا على المجتمعات المسلمة تم فرضه بواسطة الاستعمار قسرا في بيئة هي غريبة عنه وغير مستعدة له. وتختلف درجات قبول هذه الحركات والمدارس- كما أسلفنا في المقال الاول- لمنجزات التغريب والحداثة خصوصا المتعلقة بالدولة القطرية إلا أنها تستسهل مهمة التنوير والصحوة الاسلامية.
معظم هذه الجماعات لا تنظر بعمق في قضية انفصال المجتمعات المسلمة عن الاسلام، ففي نظرها الدين قد اكتمل وهذا ينسحب عليه ان هذه المجتمعات قد بلغت ايضا الكمال او قصرت عنه قليلا بمجرد نطقها بالشهادتين واقامتها للشعائر. وفي نظر معظم هذه الجماعات يسهل عليها الرجوع لاجتزاء النصوص واستنباط المناهج من هذا الدين الكامل وتطبيقها على هذه المجتمعات المسلمة الكاملة الا قليلا وبهذا التطبيق فهم سيقومون باكمال النقص القليل وبهذا يكون المجتمع المسلم قد بلغ تمامه وصحوته. عادة ما يكون النقص مرتبطا بالاخلاق فتجدهم يركزون على القوانين والحدود وكل ضوابط الاخلاق مع اهتمام بمظاهر التدين دون روح التدين وحتى الحركات التي تدعي الشمول في برامجها فتجدها أيضا تنطلق من نفس الاساس الذي يقوم على ان كمال الدين يشمل الدين نصا ويشمل المسلمين مجتمعا. ونجدها أيضا تقع في نفس ما عابت به على دعاة التغريب والحداثة المفروضة فرضا على هذه المجتمعات بقيامها هي نفسها بفرض برنامج للأسلمة لم تكتمل أركانه وانما قامت بنسجه أيضا من ظاهر النصوص وتاريخ الاسلام.
يبدو أن المفاصلة كان لها بعد أعمق من مجرد ظاهر الاحداث السياسية في السودان وقد دهشت بعد عودتي للسودان بكثافة المطروح من دعوة لاعادة قراءة مصادر المعرفة والتشريع في الاسلام مقرونة مع جدل فقهي كثيف وعالي الصوت ربما أضر في كثير من الاحيان بالدعوة الاصلية نفسها حينما يمسك الحيران والتلاميذ في حواشي الحواشي ويتركون الاصل كالل الكثيف حول عودة المسيح وبعثة المهدي وعذاب القبر والحور العين إلى إمامة المرأة للرجال في الصلاة وفي الحكم وحد الردة والرجم وغيرها بصورة تجعل كأن حل هذه الجزئيات هو من المعضلات التي يمكن بعدها أن نقول : قد وصلنا….رغم ان المقصود هو الدعوة الى اعادة التفكر والتدبر التي تنتج معرفة انسانية قادرة على الوصول بالمجتمع المسلم الى كمال الدين المشروح في اول المقال.
الجدل الكثيف حول التفاصيل نفسه أضاع الهدف الاستراتيجي المنشود وشتت من التركيز وأربك التوجه الاستراتيجي لأصحاب الدعوة أنفسهم بحيث أنهم لا يستطيعون الاجابة بصورة واضحة عن الغاية من اعادة القراءة والتدبر في أصول المعرفة والتشريع الاسلامي. وكما أعاد الاخ الكريم عامر الحاج صياغة سؤالي في ندوة حول مدخل لقراءة القرآن بصورة أبلغ مما طرحته بنفسي: (هل نري في قراءات القرءان وفقا للمناهج الحديثة جهدا حقيقيا لفحص القرءان ام محاولة لابقاء حظوظنا في المنافسة ولو اقتضي الامر تغريب القرءان واعادة وصفه بما يتلائم مع اطروحات الحضارة الغالبة عن هزيمة لا عن قناعة وصدق ؟).
الواقع يقول أننا إما أن نتدبر القرءان حقا وصدقا لنبني أنفسنا كمجتمع مسلم يحاول الوصول الى كمال التدين وإما أن نظل كما نحن داعش أخرى تحلم بالخلافة ولا تعرف الطريق.

اسامة عيدروس


تعليق واحد

  1. الكاتب يتحدث كان الدولة الاسلامية يجب ان لايكون فيها مجالس شوري رغم ان كتب السياسية الشرعية تتحدث عن اهل الحل و العقد انهم اهل الشوري. اذا فكيف يطبق المجتمع المسلم اجتهاداته علي الواعق و هم افراد كثر و ان القراءن الكريم و صفهم بان امرهم شورى بينهم ام يريد الكاتب ان يرسل الله ملائكة ليطبقوا دين الله [B][SIZE=7](قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)[/SIZE][/B].
    الكاتب يتحدث ان الدولة القطرية قفص علماني و ان اي جماعة تحاول العمل في اطاره تتحول لعلمانية و للمفارقة ان حتي تسمية الدولة القطرية تسمية حزب البعث و القوميين العرب و هم علمانيين يحاول ازالة حدودة الدولة القطرية