الصادق الرزيقي

التمـرد في أب زبـد… ورحـيل ود دوقة


[JUSTIFY]
التمـرد في أب زبـد… ورحـيل ود دوقة

هاجمت فلول من متمردي الجبهة الثورية والحركات المسلحة بجنوب وغرب كردفان، صباح أمس مدينة أب زبد، في اعتداء آثم وجبان، قتلت فيه بدم بارد عددًا من المواطنين ونهبت ممتلكات وسرقت البنوك والمحلات التجارية وعربات المواطنين وروَّعت الآمنين من الأطفال والنساء والعجزة من المواطنين، واغتالت بانتقائية بعض القيادات في المدينة وخربت المنشآت العامة ومرافق الدولة التي تخدم المواطن، ونشرت الحرائق والدمار والدماء في كل مكان دنسته هذه الأقدام المعتدية المارقة..
طاف بي طيف من مدينة أبي زبد، أرجعني لسنوات.. فالمدينة تقع في ملتقى طرق يربط كل كردفان، ومحطة مهمة من محطات السكك الحديدية ومركز تجاري كبير، ضمت بين أحضانها قبائل الحمر والمسيرية والبديرية وبقية قبائل السودان المختلفة، ولها تأثير كبير في حركة التجارة والتواصل بين المجموعات السكانية وقطاعات الرعاة والمزارعين وبؤرة التقاء هجرات ودماء، اختلطت فوق كثبان الرمال وأرض السافنا التي ترنو بأحداقها نحو الجنوب والجنوب الغربي من كردفان حيث المراعي الخصيبة والمياه وأغاني المردوم تختلط جلبة الرعاة وصخب أبقارهم بأصوات النحاس والنقارة حتى تندغم عند سفوح جبال النوبة مع إيقاعاتهم الساخنة ودقات الطبول التي تردد صداها هضاب الجبال وأغوارها والآجام والآكام الوريفة..
لم يكن يتصور أي متشائم في يوم من الأيام أن تمر أب زبد بهذه المحنة القاسية، فقد كانت مهد الطمأنينة، عاشت في وئام وسلام مذ ظهرت هذه المنطقة للوجود، اختيرت في السابق قبل ستة عقود لتكون واحدة من أهم محطات القطارات المتجهة إلى الغرب خاصة قطار نيالا الشهير والقطار الذي ينطلق من بابنوسة إلى مدينة واو في جنوب السودان..
وقد تطبَّعت المدينة كلها بطبائع أهلها فأخذت من قبائلها السماحة والشجاعة والوداعة وشدة البأس في آن واحد وصهرت كل هذا في إناء واحد أعطى السودان مدينة أب زبد..
ومن المحزن أننا في أخبار صباح أمس نتسامع بهذا الخبر الفاجع، الذي يجعلنا نتساءل عن التقصير الفاضح في حماية أب زبد وقد كانت المعلومات متوفرة، خاصَّة أن محاولة الحركات المتمردة قطع الطريق بين الدلنج والدبيبات باءت بالفشل بعد أن طردتهم القوات المسلحة من تلك المناطق، وكان معلوماً أن انسحاب وهروب المتمردين وأغلبهم يعرفون هذه المناطق جيدًا فهم من أبنائها، سيتجهون إما إلى أب زبد أو لقاوة أو يشقون الطريق نحو الشمال إلى الخوي أو حتى مدينة النهود، فكيف وقع هذا الاعتداء ولماذا؟ ومن يتحمل مسؤوليته؟ فلا بد من إجابة.. ولا بد من حساب عسير!
ورحل ود دوقة..

أنشبت المنية أظافرها فجأة وغادر هذه الدنيا في هدوء فجر أمس بمدينة القضارف الشاعر الفحل والباحث القدير في التراث الشعبي والدوبيت الأستاذ حسن ليمان محمد ود دوقة، حفيد شاعر البطانة الشهير في القرن التاسع عشر الميلادي ود دوقة..
ولكم هو فاجع ومحزن ومرير أن نصحو فجأة في الصباح لنجد نعيَه وخبر وفاته العجيب يدهمنا من القضارف، فقد كان في ليلته الأخيرة سليماً معافى سكب عصارة شعره مع أسحار تلك الليلة وقبل أن يأوي إلى فراشه نادى صهره وأوصاه ببناته الثلاث وخاصة أصغرهنَّ وطلب كوب شاي، ثم وسد رأسه وسادته وغفا… ولم يصحُ مرة أخرى مسلِّماً روحه إلى بارئها..
حسن ود دوقة المتحدر من منطقة «قوز رجب» الواقعة في نقطة تلاقٍ بين ولايتي القضارف وكسلا ونهر النيل في الجزء الرخو من البطانة، سليل أسرة عُرفت بالدوبيت والشعر فجدُّه ود دوقة الكبير كان من أبرز شعراء البطانة وذَكَرَه الحردلو في قصيدته الشهيرة:
كُتْ في جَقْدَلَة وفَاقَة وشويَّة رُوقة
ليَّ الدنيا ضاحكة والعندي مِي ممحوقة
شِن معناها هسع نمّتي المربوقة
كانت ليك قبيل ما بتبقى كدي مسروقة
ديفة اليا زمان جفلن عليْ بانقوقة
دفقوا الشاي صرِف فوق عُقلَتَها المفروقة
كان الليلة يوت في قيد الحياة ود دوقة
نماً مو ملتّق كان بجدعو فوقا..
عمل حسن ود دوقة معلماً ثم هاجر إلى اليمن وعاد إلى مناطق نهر عطبرة والبطانة والقضارف حيث عاش متنقلاً هناك، عمل في منظمة الشهيد ثم مديراً لمسرح القضارف ومديراً لإدارة المصنفات الأدبية والتراث، وقدم برامج في إذاعات القضارف وكسلا بعنوان «من مجالس الدوبيت»، وفي رمضان من العام الفائت قدَّم عبر قناة الشروق برنامجاً عن الأدب والشعر في البطانة، وكتب في عدد من الصحف ونشر قصائده فيها وخاصة في «الإنتباهة»، وكانت أشعارُه تتناول قضايا السياسة والمجتمع ونافح فيها عن هُوية البلاد وثقافتها وعقيدتها، وأصدر عددًا من الكتب أهمها ديوان الشاعر الكبير عبد الله حمد ود شوراني حيث جمع كل أشعار ود شوراني، وكتاب آخر فيه مختارات لسبعة من شعراء البطانة المشهورين، وله عدة بحوث ودراسات ودواوين تحوي شعرَه..
بفقده يكاد جيل من حَفَظَة وسَدَنَة التراث الشعبي وشعر البطانة أن يختفي ويغيب عن حياتنا، فهم من صان هذه القِيم من الضياع وجسَّد حياة البادية ومذاقها وتجلياتها في حياته حتى مماته، وكان شديد الإخلاص لاهتماماته هذه حتى لاقى الله..
رحمه الله رحمة واسعة والعزاء لأهله في قوز رجب والقضارف ونهر النيل وعزاء خاص للدكتور قطبي المهدي الذي جمعته صداقة متينة ومحبة وإخاء لله مع حسن ود دوقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون..
[/JUSTIFY]

أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة