رأي ومقالات

د. ربـيع عبد العاطي : الشباب والوظيفة العامة


[JUSTIFY]يستعجل بعض الشباب ـ إن لم يكن أغلبهم ـ لشغل الوظيفة العامة، والموضوعي من هؤلاء الشباب من يتوق نحو الدخول للوظيفة لينال أجراً شهرياً مع امتيازات تسهل له الحصول على حاجاته الأسرية، وتساعده إلى دخول القفص الذهبي، وبناء عش جديد للزوجية، ولكن آخرين لا يقنعون دون منصب الوزير والمدير، وهذه من ضمن الآفات التي حلت بنا لنهلك البذرة قبل نموها، ونقتل الشجرة قبل إسمادها.
وللأسف، فإن مثل هذه التطلعات قد أصابت الدولة والمجتمع في مقتل، ذلك لأننا نرى بأم أعيننا كيف يقود الشاب سيارة أبيه بطيش يؤدي إلى هلاك الروح والسيارة في آن، و كم من أبناء كانوا ضحية لحوادث قاتلة بسبب الدم الفوار، والحماس الزائد، وقلة التجربة، وحب المغامرة.
فالشاب الذي تعوزه الخبرة، وأسندت إليه قيادة مؤسسة، أو منح منصباً وزارياً، سيتصرف بشبابيته وعنجهيته، وبهذا يفقد المنصب رونقه وتضيع هيبته، ويهدر المال عندما يصرف لغير ما خصص له، وهكذا تتجاوز الخسارة الطامحين دونما تأهيل إلى المؤسسات والشركات ورؤوس الأموال التي تتحول إلى هشيم تذروه الرياح في مكان سحيق، وكم تكون الخسارة فادحة عندما تسند المهام لغير أهلها، وتحمل المسؤولية لمن لم يستوعب مفرداتها.

إنها الخسارة التي تنعكس على الطامح فتجعله غير قابل للتدريب والتأهيل، وتنسحب على المجتمع الذي سلط آفة الوظيفة على بذرة طيبة فقتلها قبل أن تنبت، وشجرة كان يمكن أن تنتج ثمراً يانعاً لكنه غمرها بمياه الطوفان التي قضت على طلعها وضربت سويداء قلبها، بمثل الشاحنة التي تحمَّل ببضائع فوق سعتها ويكون ذلك على حساب سرعتها، أو خصماً من قوة محركها، أو بمثل الطائرة التي تسقط بفعل اختلال التوازن الذي تسبب فيه طيار كان ينبغي أن يكون تحت التدريب.
ولقد كان بيني وبين بعض الذين تجاوزت أعمارهم الثلاثين عاماً حوارات حول ضرورة إتاحة الفرصة للشباب لشغل المناصب العامة التي قصدوا بها مناصب الوزراء والمديرين، ولم يكن القصد بالتوظيف فيما يسمى وفق المصطلح مدخل الخدمة، وأوضحوا لي رغبتهم بصراحة بأنهم لا يودون أن يتدرجوا في الوظيفة بالطريقة التقليدية، لأن مثل هذا التدرج سيكون قاتلاً لطموحهم ومضيعاً لأعمارهم، وحسب إفادتهم بأن من يرتاد الوظيفة بهذا الشكل سوف لن يصبح مديراً أو قيادياً إلا بعد مرور على الأقل ربع قرن من الزمان، وأشار هؤلاء الشباب إلى رموز سياسية لا تزال تمسك بزمام المبادرات والأطروحات الفكرية وهم الذين بدأوا حياتهم كقيادات ولم يبدأوها موظفين بالخدمة المدنية.

ولقد استمعت لطائفة الشباب بكل هدوء وروية، عسى أن استوعب ما يقولون، لأوافقهم أو أخالفهم بمبرر قوي وعندها صمت برهة، فتذكرت بأن حديثهم كان صحيحاً في زمان مضى عندما كان الذين يتخرجون في الجامعات هم نوارة المجتمع وأفضل الكوادر التي يمكن أن نتوسل بها لإدارة الدولة، خاصة بأن التعليم عندئذ كان نادراً، وأن من يحمل الدكتوراه أو الماجستير في ذلك الوقت، كان عملة نادرة. كما تذكرت بأن في بعض القرى لم يكن الذي يستطيع كتابة الخطابات متاحاً، فكان الآباء والأمهات إذا ورد إليهم خطاب من أبنائهم الذين يعملون بالخرطوم، قطعوا مشواراً طويلاً بغية إيجاد من يتلو لهم هذا الخطاب.

وجامعة الخرطوم التي تطورت من أصل كان يسمى كلية غردون التذكارية، توجد بها بحوث تخرج وأطروحات دكتوراه منذ ستينيات وخمسينيات القرن الماضي، وتلك إن اطلعنا عليها حالياً، لما وجدناها تصلح للمناقشة في عصرنا هذا الذي تدفقت فيه المعلومات.
وبناء على ما ذكرت، اقتنع بعض الذين كنت أحاورهم من الشباب بأن عليهم الصبر ذلك لأن المعرفة لا ينالها أحد وهو مستعجل، والخبرة لا تكتسب إلا بمرور الزمن، والمواكبة لا تعني (Whatsup – Facebook)، أو طريقة التعامل مع البرمجيات، وأجهزة الحاسب الآلي والموبايلات الذكية، لكن المواكبة هي اكتساب العلوم والمعارف والصبر على مسار التميز والاقتدار والتأهيل، خاصة أن الدولة الحديثة والمجتمع المتطور هما اللذان يتمتعان بالتراكم المعرفي، وهو لا يتم إلا بميقات وليس هو الذي يحدث قبل أن يرتد الطرف أو نقوم من مقامنا الذي نحن فيه الآن. والنصيحة التي نسوقها لأولياء الأمر والشباب الطامح ولأعمدة المجتمع، بأننا لا نرجو فلاحاً أو نجاحاً إذا كان إصرارنا لم يزل قائماً على قيادة الدولة والمجتمع بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير «ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد».

صحيفة الإنتباهة
ت.أ[/JUSTIFY]


تعليق واحد