ثقافة وفنون

رويداً رويداً إلى الهاوية: الدوبيت.. رحيل “والد” الغناء الحديث


[JUSTIFY]لن يُكابر أحد بسلب الدوبيت حقه الطبيعي في أبوته لفن الغناء في السوداني منذ مطلع الثلاثينيات إلى أن انسل الغناء الحديث خلسة من حظيرته، واستقل بنفسه، ليكون له مجدٌّ لم يكن يستطيع بلوغه لولا هدهدة الدوبيت له حتى قوي عوده.

الفائدة التي جناها الغناء الحديث من فن الدوبيت استمدها مُبكراً عبر غناء الحقيبة، وقبله غناء الطمبارة الذين هم نفسهم من ابتدع الغناء الذي سُمِّي لاحقاً بالحقيبة، ورغم هذا التاريخ الناصع، لكن الدوبيت – فناً – لم يجد الاهتمام في الحقب اللاحقة، وها هو يشرف على الاندثار في عصرنا الحالي، كما يروي (علي دفع الله والجيلي أحمد) في هذا الحوار.

*من عوامل اندثار الدوبيت صعوبة فهمه مكتوباً؟

– الدوبيت في الأساس يعتمد على القراءة (بث مباشر)، ولهذا يلجأ الشاعر للوسائط الصوتية سواء أكانت إذاعة أو تلفزيون أو كاسيت، بجانب اللقاءات والمناسبات وغيره.

*إذن انتشاره يقع على عاتق الشاعر نفسه؟

– لابد لشاعر الدوبيت الترويج لنفسه من خلال الغناء في المناسبات والأحداث التي يشهدها، وأنا شخصياً (الجيلي) كنت أقوم بتسجيل أشرطة الكاسيت في المنزل، ونذهب إلى الأستوديوهات، ونقوم بنسخها لعشرات الكاسيتات التي توزع في الأسواق داخل وخارج السودان خاصة في الجماهيرية الليبية والسعودية ومناطق وجود السودانيين في المهجر.

* يتم هذا مجاناً دون أي عائد مادي، أليس كذلك؟

-كل شعراء الدوبيت لا يرتزقون من شعرهم والدوبيت لا يعود على الشاعر بمال، وإنما بالشهرة والسمعة الطيبة، وهذا نابع من طبيعة الشاعر نفسه والبيئة، فالشعراء في البادية لا يتغنون من أجل المال، وإنما تدفعهم المواقف التي تمر بهم، فيقطعوا فيها الدوبيت أخضر، أي مباشر.

*شاعر الدوبيت لا يقلد غيره؟

يرد (علي دفع الله): شاعر الدوبيت يبحث عن مجد وشهرة، وهو لا يبحث عن أكل عيش فكيف له أن يقلد غيره! ومعظم شعر الدوبيت قطع أخضر، أي غناء مباشر، فإذا رأى مثلاً الشاعر ظعينة عرب رحل أو (روينة) صيد أو هطلت الأمطار يتحرك قرينه وينُظم الشعر، ثم أنشد: “لَمُوا حطب الصنوبر حلحلُو المَكْرُوب/ دَقُو السَّمنة ماعَت وعاسُّو فوقه الرُّوب/ بنت البادية قدلت بالحجول والتوب/ تضمر زى بشاري دامر المجذوب”,

* هذا يعني أن الدوبيت يصور الحياة وينقل التفاصيل؟

– نعم ولهذا تجد تأثيره كبيراً على المستمع بسبب تصوير أحداث حقيقية وقعت أمام الناس، ودائماً هنالك الكثير من الناس يحسون الدوبيت ويتذوقون معانيه خاصة أهل البادية والريف.

*يفهموه لنظمه بلغتهم؟

-نعم الدوبيت يصور حياة أهل البادية وينظم بكلامهم ولغتهم، ولهذا دائماً هم يفهمونه ويطربون له حد الثمالة، وكذلك الذين يتذوقون اللغة العربية الفصحى يفهمون الدوبيت ومعانيه ومراميه.

*ماهو نوع الدوبيت الذي ينظم في المناسبات؟

(الجيلي): الكثير من شعر الدوبيت له مناسبة عامة أو حدث، ومن خلال مشاركتي في المؤتمر الذي عُقد مؤخراً بأبو زعيمة بمحلية سودري بشمال كردفان، قلت فيه: “سودري في المياه ما شاء الله حظها نادر/ خوجال تنموي تاريخو مالِ دفاتر/ الشيء الشُفتو جاهز وحاضر/شُفت كبري ابو زعيمة وشُفت سد أم بادر”، وأيضاً يمكن للشاعر أن ينظم في ذكرياته القديمة وليالي الشباب كما في الأبيات التالية: “دوفات العلَّى نصب الحصان مُرعاهْن/ ياخيرُون حليل فترة صباي وصباهن/ بعد ما كنت يوم نيشاني ما بختاهن/ جفلن مني ولهسي أجري وراهن”.

*الدوبيت يهتم كثيراً بالغزل ولا يميل للنظم في الوطن؟

(علي دفع الله): هذا لا ينطبق على كل الشعراء، فبينهم من وهبه كل فنه للتغني بمحاسن الوطن، وأنا نظمت كثيراً في الوطن، ومما نظمت: “جنوبك فيهو الفيل والزراف والحمراء/غربك فيهو صفات الكرم مكتملة/ شمالك مرتع الناقة وتلال الرملة/شرقك منفذ للصادر البجيب العملة”.

*الإبل عنصر مشترك في شعر الدوبيت قديمه وحديثه؟

-الإبل لها رمزيتها ومكانتها في البادية، ولهذا يكثر الشعراء من التغني بخيرها وبشرها، فهي عصب حياة البادية ومجد العرب منذ القديم، وفيها قلت: “الليلة أصبحتي تبث الجزيرة أخبارك/ مهما تتوكري يأم زُور فارس الكواهلة حدارِك/ زمن تكُوسي الفتنة ومُنقِره طارك/ ناس ود الإعيسر خادو فيك معارك”.

*الغزل في الدوبيت صنو الكرم والإبل والشجاعة؟

(الجيلي): كل شعراء الدوبيت ينظمون الغزل ويتشببون بالجمال ويتأملون الحس بعين الشاعر، وفي هذا المضمار قلت: “الليلة لقيتها شبه الدودرت بجديها/ تمشي الكي حرن قدم الحمامة مشيها/ نقول محظوظ أنا اللاقتني عاين فيها/ ولا نقول بخيت الفي المُراح ساعيها”!!

*لماذا شعراء الدوبيت يبدعون في الوصف دائماً ويكثرون الحنين للبادية؟

– عندما تهب بروق الرِشاش وتهب رائحة الدُّعاش الكثير من الشعراء بتتغير أحوالهم، وأنا منهم، فأتذكر الشواقير والصناقير والعرب الراحلين ضعاين، ولهذا تجدني أردد: “يا البادية البقوموا مع الرشاش رحالك/ عادة أهلك كل يوم يفقدوا أحوالك/ في الوديان مثل نيم البحر سيالك/ عربك هدموا البيوت للشيل ودانو جمالك”.

*ألا ترى أن فن الدوبيت يسير نحو الاندثار والتلاشي؟

(علي دفع الله) هو لا يسير فقط بل هو الآن أمام خيارين، إما التلاشي حالاً وإما أن يصبح قليلاً وضعيفاً، ويمكن أن نرد هذا إلى توقف شركات الكاسيت، ولهذا لابد من الاهتمام بهذا الضرب من الفنون

اليوم التالي
خ.ي[/JUSTIFY]