رأي ومقالات

يوسف عبد المنان : الأمير في محنته (1)


{ يعيش محنة ما بين عاطفته وعقله.. اختار طريقه بقناعته الخاصة، ولكنه وجد نفسه محاطاً بقيود وتقاليد وأعراف.. سجنته في الموقع الرفيع الذي ارتقى إليه لسببين؛ الأول لأنه ابن السيد “الصادق المهدي” زعيم حزب الأمة وكيان الأنصار.. والثاني موقفه الشخصي من قضايا تشكل ثوابت للنظام الحاكم في السودان.. صعد “عبد الرحمن الصادق” من عقيد متقاعد كان مطلوباً للمحاكمة العسكرية لقيادته منظمة عسكرية إرهابية (جيش الأمة) إلى عقيد في القوات المسلحة التي قاتلها وسفك دمها.. ليقاتل معها.. ويذود عنها.. عاد “عبد الرحمن الصادق المهدي” ضابطاً في القوات المسلحة مثل عودة “إبراهيم شمس الدين” من ضابط متقاعد إلى ضابط يفيض ثورية ورغبة عارمة في التغيير.. حتى بزغ نجمه في 30 يونيو 1989 أصغر أعضاء مجلس قيادة الثورة سناً وأكثرهم فاعلية وتأثيراً على القرار العسكري..
عودة “عبد الرحمن الصادق” لأحضان القوات المسلحة بقرار سياسي ضمن مطلوبات تسوية الخلاف بين حزب الأمة القومي والمؤتمر الوطني بعد اتفاق جيبوتي الذي نسج خيوطه أبناء العمومة من دناقلة الشمال وهم د.”مصطفى عثمان” و”مبارك الفاضل المهدي”.. وكبيرهم “بكري حسن صالح” وأشعر بالفخر بنجاحات (أجدادي) لوالدة أبي الدنقلاوية التي لم نسعد برؤيتها..
ولولا التفاهمات بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني لما عاد “عبد الرحمن الصادق” لارتداء شرف القوات المسلحة البازخ، لكن الإمام “الصادق” ظل متنكراً لتلك (الصفقة) أو قُُل التسوية التي كانت له فيها مآرب أخرى، حيث تشكل عودة “عبد الرحمن الصادق” للقوات المسلحة ومن ثم تسكينه في منصب رفيع في الدولة فترة تدريبية ليتعلم من “البشير” وتقاليد القصر الرئاسي، كيف يُُحكم السودان، و”الصادق” (يدخر) أحبَّ أبنائه إليه “عبد الرحمن” لوراثة حزب الأمة وقيادته في المستقبل القريب.. حال تقاعد الإمام “الصادق” وترجله من قيادة الحزب، طبعاً من رابع المستحيلات أن يقود الحزب شخص لا ينتمي إلى السلالة المهدوية!! كشأن الحزب الاتحادي الديمقراطي.
{ الأمير العميد “عبد الرحمن الصادق” شخصيته الاجتماعية لا تنبئك عن موقعه القيادي ودوره السياسي وسُموِّ ورفعة مقامه!! تواضعاً حدَّ الانكسار للآخر.. وابتسامة دائمة على وجه صارم القسمات.. قدرة على التعبير عن النفس بدقة وكلمات يتم وزنها بمعايير الذهب.. لا يتهجم على أحد.. لا يرفع صوته فوق صوت الشعب.. متأدبٌ أمام ضيوفه وجُلسائه، يحتفظ بأدبه كضابط مع قادته الكبار في الدولة والقوات النظامية.. لعب الأمير “عبد الرحمن الصادق” أدواراً كبيرة وفي صمتٍٍ شديد ظلََّ حمامة سلام بين شطط قادة حزب الأمة والحكومة، يصب الماء البارد على النيران المشتعلة ويحيلها إلى رماد..
تعتقل أخته د.”مريم الصادق” ويشعر في نفسه بالمرارة كيف يتم وضع “مريم” أخته في غياهب السجون من قبل سلطة هو مساعد لأعلى مقام فيها. هل يسعى بالحسنى لإطلاق سراح أخته.. أم يخلع بزته العسكرية ويتنحى عن منصبه ويستريح من وعثاء آلام السياسة.. أم يكتم أحزانه في أحشائه.. وتعلو اعتبارات الوطن وحاجته لكل أبنائه على جراحات الذات؟.. الأمير “عبد الرحمن الصادق” لم يسعد كثيراً بمنصبه كمساعد للرئيس.. و(مسَّخت) عليه مشكلات حزب الأمة وأزمات الأسرة طعم السلطة وبريقها.. وصولجانها.. في بعض الأحيان يمتهن “عبد الرحمن الصادق” مهمة رجل الإطفاء.. وأحياناً ساعي البريد بين الإمام والرئيس.. وأحياناً يكتم أحزانه ويتوارى عن الأضواء بعيداً حتى لا يبدو مثل الراقص على أنغام موسيقى حزينة في جنازة كبير قومٍ رحل..
يواجه الآن الأمير “عبد الرحمن” محنة جديدة من سلسلة الأزمات التي يعيشها بعد خروج الإمام “الصادق” وتدهور العلاقة بين الحكومة وحزب الأمة.. وقد لاحت بوادر حقبة جديدة.. قد تدفع بالأمير “عبد الرحمن” لاتخاذ القرار الصعب.. أو انتظار سكون عاصفة لا تهدأ.. فكيف يواجه الأمير ما يلوح في الأفق من نيران أخذت تشتعل في ثوب العلاقة المهترئ بين (الأمة) و(الوطني)؟
نواصل

المجهر السياسي