تحقيقات وتقارير

!.. أبكِ وطني الحبيب..(أبكِ وطني الحبيب) إبان التفرقة


الموقف قال (ابكِ على الطفل الذي لم يولد، والذي هو وريثنا في الخوف، دعه لا يحب الأرض بعمق، اجعله لا يبالغ في الضحك والفرح كثيراً، عندما تسري المياه خلال أنامله ودعه لا يقف صامتاً ساكناً طويلاً عندما تغيب الشمس وتترك الغروب في احمرار اللهب، ولا تتر —–كه ينفعل كثيراً عندما يسمع غناء عصافير أرضه، ثم دعه لا يمنح الكثير من قلبه للجبال والوديان في بلده، لأن الخوف سوف ينزع منه كل الذي أعطي وفي لحظات).
وقال الفيلسوف الكاتب ورسام الكاريكاتير جيمس ثيربر (دعنا لا ننظر للماضي بغضب ولا للمستقبل بخوف بل لحولنا بوعي).

هاتان الحكمتان من فلاسفة مبدعين تحكمان كل كتاباتي وهي التي تجعلني أسير فيها باتساق دون تناقض في خط معتدل واقعي ومتجرد، وأعتمد في تحليلي على القراءة العميقة لما بين السطور لكل تصريحات تصدر من أمريكا وأوربا، واعتمد بعد ذلك على الربط بين الأقوال الماضية والأحداث اللاحقة. عشت في أمريكا قرابة الثلاث سنوات في الفترة من 1977 الى 1979م في دراسات عليا في الهندسة في جامعة وسكنسن (ماديسون) وخبرت كيف يعيش الأمريكان، وكيف تدار الدولة، وكيف تمارس الديمقراطية الرسمية في البرلمانات والديمقراطية الشعبية في منظمات المجتمع المدني المؤثرة القوية وخبرت كيف يتحكم اليهود في الاقتصاد وبالتالي السياسة الأمريكية- قرأت في العام 1977- وأنا في أمريكا- تصريحات مسؤولين وتحليلات كتاب أعمدة ومقالات في مجلات كبيرة مثل النيوز ويك، والتايم عن ايران وحكم الشاه وقوة جهاز أمنه السافاك، وعن ضيق مواطنيه من انعدام الحريات وتفشي الفساد المالي والأخلاقي، وعن تنامي ثورة إسلامية خارج البلاد بزعامة الإمام الخميني، ولمست تعاطفاً مع الشعب الايراني في كفاحه، أيقنت بعد هذه القراءات أن شيئاً عظيماً وتغيراً جذرياً سيحدث في ايران.. حكم الشاه ايران منذ العام 1953 بعد انقلاب تم التدبير له ولأول مرة بواسطة امريكا أطاح بالرئيس محمد مصدق، وحكم الشاه بقبضة حديدية بواسطة جهاز أمنه الرهيب السافاك، وبعد أن تفشى الفساد المالي والأخلاقي وتدهور الاقتصاد وتزايد العطالة ونزوح الشباب الى المدن عاد الإمام الخميني من منفاه في فبراير 1979 بعد هروب الشاه من مواجهة المظاهرات والاضرابات بعد حكم قوي لمدة ستة وعشرين عاماً (1953-1979)، وفي أبريل 1979م تم تكوين حكومة جديدة وتمت تسمية ايران بدولة إيران الإسلامية.

بالرغم من أن أمريكا هي التي أتت بالشاه لحكم ايران في 1953 إلا أنها تخلت عنه في العام 1979 نتيجة لخطأ في حساباتها وتحليلاتها، وكثيراً ما تخطئ أمريكا في ذلك مثلما حدث لها في فيتنام، أفغانستان، الصومال، سوريا، مصر، اليمن وليبيا.

لذلك عندما أكتب منبهاً للدور الكبير والقدرة الأكبر لأمريكا في إحداث التغييرات في أية بقعة من العالم لا أقصد زرع الخوف في الحكومة أو المواطنين، بل أقصد تسليط ضوء كاشف عن كل الاحتمالات المتوقعة بغرض التحسب منها وعدم الاستهانة بها أو التقليل من أثرها حتى نصل الى خلاصة واقعية في نهاية المقال نسلط الضوء على العناصر المهمة التي توجه السياسة الامريكية:

أولاً: السياسة الأمريكية وقراراتها لا يصدرها فرد أو مجموعة صغيرة حاكمة، بل يحركها الرأي العام الأمريكي، والرأي العام فيها تبدأ في تكوينه منظمات المجتمع المدني والتي تسعى بوسائل فعالة لايصال مداولاتها ودراساتها وتوصياتها الى مجموعات ضغط منظمة ومؤثرة في صناعة القرار في الكونجرس، والذي في النهاية يمارس ضغطه على الرئيس الذي يساق لاتخاذ القرار، لذلك القرارات الخارجية الاستراتيجية الأمريكية لا تتأثر بتغيير الرؤساء، مثال لهذا التسلسل في تشكيل القرار واصداره في أمريكا، ما قام به الممثل السينمائي كلوني الذي صرف مالاً وجهداً في انشاء قمر صناعي فوق السودان، ليراقب مناطق العمليات في جنوب كردفان وجزء من دارفور.. مَن وما الذي دعاه لعمل ذلك؟ إنها منظمات المجتمع المدني وهو جزء منها، وقد تأثرت بما يرد اليها من معلومات من ناشطين معارضين سودانيين في أمريكا، وهو ومنظمته يقومان بجمع المعلومات وارسالها الى مجموعات الضغط التي تدفع بها الى الكونجرس ولجانه المتخصصة، وتكون في النهاية موقفاً وقرارات رئاسية امريكية تجاه السودان تحدد موقف امريكا من السودان- هل هذا (تخويف) أم واقع واجب التعامل به والتفاعل معه لتحديد المسار المناسب في تعامل الحكومة مع امريكا؟.

ثانياً: أمريكا يحركها أيضاً البعد الاقتصادي وعينها على كل ثروات العالم والحاجة اليها بعد أن اتضح عدم كفاية الموارد والثروات المستغلة حتى الآن في مواجهة انفجار العالم السكاني فهي- أي أمريكا- تنظر الى شح المياه واحتمالات الحروب بسبب هذا الشح وضرورة المياه في توفير الغذاء الزراعي والحيواني، وتنظر الى الطاقة ومخزونها في باطن الأرض والمعادن والمحاصيل الزراعية المهمة في الصناعة والنادرة مثل الصمغ العربي الذي ينتج السودان منه 80% من حاجة العالم.

كل هذه الثروات متواجدة في السودان والمستغل منها أقل من 25% من المتوفر المعلوم وغير المعلوم.

ثالثاً: البعد الأمني وتهديد السلام العالمي المنصوص عنه في ميثاق الأمم المتحدة في الفصل السابع، والذي يتيح التدخل العسكري الدولي في أية دولة كما حدث في يوغسلافيا والعراق، وفي هذا البعد تلتقي استراتيجيات امريكا واسرائيل في محاربتهما للاسلام خاصة هذه الأيام التي برز فيها الإسلام كقوة رهيبة مخيفة تملأ كل فراغ يحدث في أية بقعة من العالم، وامريكا تنظر الى السودان كعمق استراتيجي لهذه الثورة الاسلامية المتزايدة والسودان بحكم موقعه وثقافته الاسلامية الراسخة في 98% من مواطنيه مؤثر بدرجة كبيرة على كل المنطقة التي تضم أكثر من عشر دول. هذه العناصر الثلاثة الرأي العام الأمريكي، ونظرته، وأثره فيما يجري من حروب في السودان وزيادة معاناة وموت ودمار مناطق كبيرة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والتحديات الاقتصادية في شح الموارد العالمية في توفير الغذاء والماء والطاقة، ثم البعد الأمني والسلام العالمي كلها توجه الأنظار والاهتمام الأمريكي على السودان لأن السودان مؤثر في الأبعاد الثلاثة التي تحرك السياسة الأمريكية، لذلك فإن امريكا تسعى الى الحفاظ على النظام الحالي في السودان ولكن بتعديلات تتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية في أبعادها الثلاثة المذكورة أعلاه، أمريكا لا تريد نظاماً ديمقراطياً غير مستقر لأن سياساتها ونظرتها بعيدة المدى، أمريكا تريد نظاماً شمولياً قوياً يمنح المواطنين قدراً كبيراً من الحريات والمساواة والعدالة والنزاهة والأمن والأمان في كل بقاع السودان، ويوفر لشعب السودان الرفاهية في تعريفها المبسط وهو توفير الغذاء والخدمات الضرورية بتكلفة في مقدور الغالبية العظمى من المواطنين.. هل هذا (تخويف) أم واقع عملي مقدور تحقيقه؟ ماذا يقول الذين يصفوننا بأننا نتبنى مواقف امريكا ونسعى الى (تخويفهم) بها ماذا يقول هؤلاء وقد تبدلت كل التصريحات الرسمية في الخارجية، والشعبية في قيادات المؤتمر الوطني التي رحبت بدعوة البروفيسور ابراهيم غندور لأمريكا، وقبلها وزير الخارجية الأستاذ كرتي، وتواصلت التصريحات الى حد وصفها بتقارب وجهات النظر والى ضرورة تطبيع العلاقة مع أمريكا بل هاجمت بعض القيادات وقوف ياسر عرمان في مهاجمته لأمريكا لدعوتها غندور والجلوس معه وكل من يعقل ويفهم أبجديات السياسة يعلم أن مجرد مهاجمة عدوك لطرف ثالث مشترك يعتبر نصراً لك.. السياسة لا تعترف بعداوة دائمة أو صداقة دائمة بل تعترف بديمومة المصالح وترفض التمترس في المواقف.

والله الموفق.

اخر لحظة