محمد محمد خير

أبكيتنا يا حيدر !


نحن أحياء هذا الصباح
هنا لم نزل
قد بكينا طويلا طوال الظلام
على من بكى
وعلى من قتل
وكنا على ثقة
ليس أقسى علينا من الياس
أقسى علينا من اليأس إلا الأمل!
(إبراهيم نصر الله)
هنالك بعض التعابير الوصفية في اللغة مثل (عف اللسان- نقي السريرة- صافي القلب- عفيف القلب واليد واللسان) إلى آخر تلك التعابير التي يوصف بها أناس ربما لا تتسق تلك التعابير في وصفهم لكنها تلامس نسبيا بعض خصالهم، لكنني أجزم أن كل هذه التعابير التي تتوسل للنقاء والعفة والطهر والصفاء تتصل مباشرة بطباع الراحل حيدر طه، الذي غادرنا بغتة وهو في أتم عافيته فترك لنا إرثا من الخصال بجانب الفجيعة.
ماسمعت حيدر يتحدث إلا ضاحكا، وكان عنوان الابتسامة ومقرها فمه، وتجلياتها أسنانه. وما رأيت قلبا كبيرا يساوى قلبه في الاتساع والمحبة والرحمة و(الحنية) بقدر قلب حيدر الذي غطاه عشق السودان ففاض وفاض.
عُرف الراحل بانتمائه للتيار الناصري الاشتراكي منذ سنوات دراسته بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، لكنه عرف بالمهنية العالية في مجالة المهني، محررا بارعا وعارفا بأسرار اللغة، وتكنيك التقرير الصحفي، وتعدد زوايا النظر للقصة الخبرية. وعرف كنقابي بارز منذ أواخر السبعينيات وهو عضو مكتب نقابة الصحفين التنفيذي الذي قام بحله نميري عقب سويعات من إعلانه، وكان المجلس يضم الأساتذة: عمر عبد التام، ويوسف الشنبلي، ومحمود محمد مدني، وعبد الواحد كمبال، الفاتح المرضي، وآخرين لا تسعفني الذاكرة الخؤونة بأسمائهم النيرة.
بدأ الراحل رحلة (الفصل التعسفي) باكرا فقد تم فصله من وكالة للسودان للأنباء عقب فوزه ضمن قائمة القوى الديمقراطية لنقابة الصحفيين في ذلك الأوان ولم يعد للوكالة إلا بعد الانتفاضة.
عاش جزءا من سني عمره في القاهرة ورفد المكتبة السودانية بمؤلفات مهمة، إلى أن هاجر للخليج وظل هناك حتى يوم تلك الميتة المباغتة.
في فترة القاهرة تمتّنت صلتي به فقد كان مديرا لتحرير صحيفة (الخرطوم) التي كانت تصدر من هناك فوقفت أمام صرح النقاء الإنساني، والسعة المعرفية، والأخوة الفياضة، والنقاء البشري والدربة المهنية، والاطلاع الواسع، والدقة في التعامل مع الخبر، وصدق الحدس.
كان الراحل يكتب التقرير الخبري كالقصيدة، يكتبه بمفردات الشعر، ورؤى المفارقة، وانتصاب الحلم؛ مفردات في غاية البساطة والأناقة والاحتشام تنطوي على معلومات مهمة وغزيرة، وكان يعرف كيف يستدعي ماضي تلك المعلومات ويزينها بحاضرها.
وكان كالطفل يندهش لكل شيء وكنت أعزو ذلك لصلابته الأكاديمية الجادة، فكنت أمازحه كل عصر حين أجيء للصحيفة لتسليم عمودي: (إنت يا حيدر ما عندك ثقافة شوارع)!
كان جادا بلا صرامة، ومتدينا بغير تنطع، وله ذراع طويلة من ميدان العلوم السياسية تخصصه الأكاديمي وتربته التي نبت فيها، فهو أيضا يشبه الشجر، كان الراحل ذواقا وحفيا بالمفردة الجزلة ويا ما كان يتصل بي بعد منتصف الليل ليثني على تعبير أوردته ضمن عمودي أو استشهاد بشعر ثم يسألني مندهشا: (إنت الحاجات دي بتجيبا من وين؟) فأرد عليه بما أن واثق منه (إنت ما عندك ثقافة شوارع)! رحم لله حيدر الذي سكن تراب بلاده بعد رحلة من العناء والشقاء والاغتراب، فقد زلزلني نبأ رحيله المفاجئ وأسلمني من حزن صامت لحزن، متناسل فالأحزان تتناسل لتلد الكآبة. وأسأل الله أن ينزله المنزلة اللائقة به فأشهد الله أنه (لا يفوت وكت) ولا يحمل ضغينة وليس من طبائعه الخبث.