الصادق الرزيقي

الزكاة والكوميسا ود. غــــازي!!


> ثلاثة موضوعات مهمة تشهدها الخرطوم في نهارها وليلها، لم يتلفت لها الإعلام كثيراً، ولم تغمس فيها الصحافة أياديها وأرجلها كما تفعل في عالم ساس يسوس، ومن المحزن حقاً أن نهج الإعلام في كل الدنيا يحتفي بالكوارث والحروب والأزمات والحوادث ولا يلقي بالاً لما يسمى الأحداث السعيدة، ويذكر هنا أنه في ثمانينيات القرن الماضي أرادت محطة تلفزيون أمريكية تغيير نمط الأخبار وموضوعاتها، فبدلاً من القتل والدمار والخراب والحرب وأنباء الزلازل والفيضانات والجريمة، وضعت في مقدمة نشراتها أخباراً عن معارض الزهور والطيور وأخبار الزيجات للمشاهير وغيرها مما يسر ويبهج القلب، فلم تلبث أيام قلائل حتى انصرف الناس عن القناة وتراجعت مشاهدتها وتناقصت إعلاناتها!! ولعمرك هذا منهج تسير عليه كل وسائط الإعلام مقروءاً ومسموعاً ومرئياً.
> ولنعد إلى موضوعات الخرطوم الثلاثة التي أهملها الإعلام.. خلال يومين من صباح الإثنين وتواصل حتى أمس المؤتمر الدولي لتقييم وتطوير مسيرة الزكاة في السودان، الذي خاطبه رئيس الجمهورية في جلسته الافتتاحية، وهذا المؤتمر من أهم الموضوعات التي جرى نقاشها في البلاد لقضية تعد ذات مدلول عقدي وديني واجتماعي من الدرجة الأولى، فالزكاة كشعيرة تعبدية لها بعدها المباشر على التنمية الاجتماعية وعلى إشاعة روح التكافل والتراحم في المجتمع، وتجربتها في السودان وهي نبتة أصيلة وصميمة نبتت في بلدنا بشكلها الحالي لأكثر من ثلاثة عقود تعد من أهم التجارب في مجال التنمية الاجتماعية في العالم الإسلامي، وأسهمت في التقليل من حدة الفقر، وزرعت في النفوس روح التدين الحق في تراحم المجتمع مع بعضه البعض وتكافله، فكم عدد الذين استظلوا تحت مظلة الزكاة طوال ثلاثة عقود تقريباً؟ لقد استفاد خلق كثير من الناس وفقرائهم من تجربة العمل الزكوي التي تطورت مع الأيام في فقهها وتشريعاتها وقياساتها ووسائلها، وترسخت كبديل إسلامي فعال وذي أثر مباشر في محاربة الفقر والتقليل من وطأته.
> ولم يكن ديوان الزكاة منذ قيامه جامداً ولا متحجراً في مكانه، فقد اجتهد القائمون عليه طوال مسيرته في تجديد الفقه الزكوي واستنباط اجتهادات وأحكام وتشريعات وضعت الزكاة في مكانها الذي تستحقه من أهمية وتعظيم وتقدير، وغيرت وجه السودان، ولا يمكن تصور حال السودانيين والفقراء منهم لو لم تطبق تجربة الزكاة في السودان وتنجح.
> اما الموضوع الثاني الذي لم تأبه له وسائل الإعلام كثيراً، هو الاجتماع الثامن عشر لوزراء العدل والنواب العاميين لمنظمة الكوميسا في شرق ووسط إفريقيا، فالاجتماع حضره ثمانية عشر وزيراً للعدل ونائباً عاماً في دول المنطقة، وهي اجتماعات ذات قيمة سياسية واقتصادية وقانونية مهمة للغاية بالنسبة للسودان الذي يجتمع فيه أهل القانون في هذه البلدان لوضع الأسس الكفيلة بتفعيل نظم واتفاقيات الكوميسا التي بات لها أثر مباشر في التبادلات التجارية وحركة السلع والبضائع وعبورها والرسوم الجمركية، الأمر الذي انعكس على اقتصاديات هذه البلدان، وتطورت هذه المنظمة الإقليمية بصورة مذهلة وحققت الكثير من أهدافها، والاجتماعات التشاورية بين الدول الأعضاء وانتخاب مكاتبها التنفيذية وهيئتها القيادية تتوج صباح اليوم بافتتاح مبنى أنيق هو مقر محكمة الكوميسا، وهي عمل متقدم يؤكد المدى الذي وصلت إليه الكوميسا من تطور، واستضافة السودان لاجتماعاتها في هذا الوقت خير دليل على أن السودان يلعب دوره الإقليمي والدولي بكفاءة عالية، وصار من أهم نقاط وقواعد انطلاق العمل الإفريقي المشترك.
> أما الموضوع الثالث فهو انتعاش الحياة الفكرية والجدل الفلسفي والعلمي المعرفي العميق في ليالي الخرطوم الغافلة، ففي منزل الدكتور غازي صلاح الدين المفكر المعروف، تم إحياء المنتدى الذي ابتدره منذ سنوات وغاب فترة طويلة، وكان ليل الثلاثاء أول من أمس مثقلاً بقناديل الفكر والنظر العميق، حيث دعا د. غازي نفراً من المهتمين بقضايا الفكر الإسلامي من أبناء الحركة الإسلامية الخُلص، الذين تفرقوا أيدي سباً وتلقفتهم دروب السياسة العمياء وكل في طريق، جمعهم غازي للتدارس والتفاكر حول ورقة وزير الخارجية المغربي السابق سعد الدين العثماني ورئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية الحاكم هناك، وأحد رموز الحركة الإسلامية المغربية، والتي قدمها في منتدى كوالامبور حول مفهوم الدولة الإسلامية قبل أربعة أشهر تقريباً، وبجانب د. غازي كانت هناك رموز من مفكري الحركة الإسلامية وعلمائها وشبابها وكهولها خاصة المهتمين بقضايا الفكر والفقه والاجتهاد والسياسة، ودار حوار عميق ونقد دقيق للحالة التي عليها تجارب الحركات الإسلامية وتطوراتها الفكرية والسياسية وأزماتها وإشكاليات خطابها وملامستها للواقع.. وحظيت الورقة التي عرضت وقدمت للحضور بنقاش عميق وصادق ومتجرد، ولم يستشعر أحد أن المدارس الإسلامية والخلافات التي ضربت جسد الحركة الإسلامية قد أذهبت ريح الجدال والتفكرات والنظرات الحادبة على مسيرة التيارات الإسلامية ومحاولاتها بلوغ أهدافها وتنزيل تجاربها للواقع وتنزلاتها عليه.. وبحق كانت ليلة لم تتسرب إليها السياسة التي فرقت هذا الصف.. ويُحار المرء في الوجوه التي أمامه.. لِمَ تباعدوا وتفرقوا؟!