عبد الجليل سليمان

يحبونني ميتّاً


بدا لي حب السودان (الوطن) بالنسبة للسواد الأعظم من رهطه الميامين، خاصة من أهل الحل والعقد والأوتاد والعروش، بدا لي وكأنه حب مثل ذاك الذي وصفه محمود درويش في قصيدته الشهيرة (يحبّونني ميّتًا)، حين قال: (يحبّونني ميّتًا ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا. سمعت الخطى ذاتها. منذ عشرين عامًا تدقّ على حائط اللّيل. تأتي ولا تفتح الباب. لكنّها تدخل الآن. يخرج منها الثّلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ./ ألا تشربون نبيذًا? سألت. سنشرب. قالوا. متى تطلقون الرّصاص عليّ? سألت. أجابوا: تمهّل!).

ويحبونني ميتاً، هذه لا تبدأ من جدل حمور زيادة وتفاسير سرديته الذائعة (شوق الدرويش) – للأسف لم أطلع عليها حتى اللحظة، لكنني مبدئياً ضد منتقديها الذين حاكموها باعتبارها (تأريخا)، وليس (رواية)، لكن حتى ولو افترضنا ذلك – إنها تاريخ – فما الذي منح المهدية قدسية تتعالى على النقد وإظهار السلبيات؟، أليست تجربة إنسانية؟

وشوق الدرويش بحسب مجترحها هي (سرد) وليس تأريخا، لكنه سرد يقترب من التاريخ بقدر ويبتعد عنه بأقدار أخرى، وبحسب (إداورد سعيد) فإننا إذا ما فهمنا السرد بأكثر معانيه تقليدية فهو (صيغة من صيغ التاريخ)، ولعل العلاقة بين الكلمتين ( Story/History) في اللغة الإنجليزية والكلمة الواحدة المشتركة في الفرنسية Histoire) ) تجسد مظهرا بالغ الوضوح والدلالة على مدى التأثير والتأثر الحاصل بين السرد والتاريخ. لقد كان التاريخ في الغرب حتى القرن الثامن عشر فرعا من فروع الأدب. وينعكس هذا في الأصل المشترك الذي يتمثل في أن مصطلح التاريخ ومصطلح السرد القصصي إما أن يكونا شيئا واحدا أو شديدي الشبه في كثير من اللغات الأوروبية.

وهنا، يقول ميشيل بوتور إن الكلمة الفرنسية Histoire تدلّ في الوقت نفسه على الكذب والحقيقة وعلى معرفتنا بالعالم المتحرك، وعلى التاريخ العام، وعلى حذرنا، وعلى القصص التي نؤلّفها لنحمل الأطفال على النوم، ولنُنِيم هذا الطفل الكامن في نفوسنا الذي يتأخر دائما في الاستسلام للرقاد.

وبالتالي فإن النقد الأدبي يبدأ بالقصة، أما التاريخ فينتهي إليها. وفي التاريخ يتقدم التحليل على القصة، أما في ممارسة النقد فإنه يتبعها. وهذا يعني أن ما يكون بالنسبة إلى التاريخ نهايةً للنشاط المعرفي يكون بالنسبة إلى النقد بداية العملية العقلية. وإذا حَكَم النقد التاريخي على سرد زمني بسيط، على سبيل المثال، بأنه سرد دقيق فإنه لا يعامل حينئذ بوصفه حكاية بل بوصفه مصدرا لمعطيات يمزجها المؤرخ بمهارة أو يعيد مزجها بمعطيات أخرى في سلسلة أو متوالية جديدة.

هكذا ببساطة، تبدو الأمور واضحة، حية، لكننا نحبها ميتة دوماً، نذبح الوطن أولاً ثم نتصارع ونتعارك لنأكله ميتاً، يبذل بعضنا بصفة فردية وطموح شخصي جهوداً عظيمة – كحال حمور زيادة – وقبله الطيب صالح وآخرون- فيبدعون خارج الوطن، وبينما يحتفي بهم الآخرون، نستل سيوفنا الصدئة من أغمادها المهترئة ونذبحهم – لنأكلهم ميتين.

نحن شعب يحب الميتة (بتاعين ميتات وكدا)!!