يوسف عبد المنان

ميلاد مدينة


تابعت بدهشة وإحساس بالفخر مباراة المنتخب السوداني الأولمبي والمنتخب الإثيوبي عصر (الجمعة) الماضي.. وهي تلعب في مدينة “الأبيض” عروس الرمال.. وحشود جماهيرية كبيرة ضاقت بها مدرجات ملعب المباراة.. وفي المقصورة الرئيسية والي شمال كردفان “أحمد هارون” وقيادات ولائية، ووزير الدولة “يحيى حماد” والجالية الإثيوبية.. ملعب “الأبيض” طبقاً لما جاء في الصحف تمت إجازته من قبل الاتحاد الأفريقي.. كملعب دولي.. هل ما نشاهده على الشاشة هي “الأبيض”؟؟ المدينة المنسية التي تعلوا على شوارعها البائسة ذرات الرمال.. وسكان المدينة ساد وسطهم الإحباط والأسى.. فآثروا الهجرة.. وقد توالت على المدينة المصائب والمحن.. وغادرت فرقها الدوري الممتاز.. وأصبحت نسياً منسياً.. بعد أن كانت “الأبيض” واحدة من مراكز القوى الكروية في البلاد؟؟ ما الذي حدث بين الأمس واليوم؟
حقاً إذا كانت النفوس كباراً تعبت من رهقها الأجساد.. جاء مولانا “أحمد هارون” من جنوب كردفان مثقلاً بجراحات الحرب.. وطول المعارك.. ودخان الحرائق والانتقال من مرحلة الانسجام والتوافق والآمال العريضة مع شريكه على الحكم الحركة الشعبية التي غدرت به.. وطعنته في ظهره.. وخاض حرباً مع التمرد لرد العدوان عن “كادقلي”.. التي حطمت آمال “هارون” في البناء والتعمير.. وحينما صدر قرار إعفائه من منصب الوالي لم يكرم كما كان يستحق.. وغادر الولاية نظيفاً شريفاً طاهر اليد لا مبغوض.. ولا مشكوك في ذمته.. يمشي واثقاً.. لكن تناثرت الأسئلة من الخرطوم حتى كردفان كيف لـ”هارون” الذي خرج من “كادقلي” محبطاً.. وحزيناً أن يتجاوز كل الإحساس بالفشل للنجاح وتقديم ما ينتظره مواطنو شمال كردفان.
عكف الرجل أياماً وليالي صامتاً، بحث عن توجيهات للنائب الأول لرئيس الجمهورية السابق “علي عثمان محمد طه” بعد زيارته للأبيض ودعوته لحكومتها حينذاك بصياغة مشروع قومي متفق عليه لتعويض شمال كردفان.. بعد أن تجاوزتها كل المشروعات التنموية الكبيرة.. ما بين الآمال والتطلعات والثقة في النفس.. صاغ “أحمد هارون” في ليل الأسى مشروع النهضة كفكرة.. ومضى في تسويقها إعلامياً.. وسياسياً.. شكك من شكك في قدرة الرجل على إنفاذ ما جاء في وثيقة النهضة.. واعتبرها البعض أمنيات وأحلاماً لسياسي لا يعرف الهدوء.. وأحاط “هارون” نفسه في “الأبيض” بوجوه جديدة أغلق صفحة الأمس للأبد.. ووضع حسناته وإخفاقاته في جنوب كردفان وراء ظهره.. وترك مشروعات الطرق.. والمستشفيات والمباني الحكومية التي شيدها في “كادقلي” أطلالاً ينعق عليها البوم وتستريح في ظلالها الحمير الضالة.. وأخذ ينحت في رمال “بارا” و”أم روابة” و”جبرة الشيخ”.. استنهض همم الأهالي.. وأعاد إليهم الثقة في أنفسهم.. ونفض الغبار عن المنسيين في الهامش والمبعدين بالتصنيف السياسي، وخاض بكل هؤلاء معركته لبناء ولاية من الصفر.. جاء بأهل الفن والرياضة والموسيقى والسياسة والمال لبناء مشروع كردفان الجديد.. لم ينقضِ عام حتى شمخت مؤسسات.. وتمددت طرقات وتسربت مياه العافية من بارا وود البقا إلى شبكة مياه الأبيض.. وصعد فارس كردفان هلال التبلدي لمنظومة الفرق الممتازة.. ومعه تم نفخ الروح في ملعب إستاد الأبيض.. بالنجيل الصناعي.. والمساطب الشعبية والمقصورة.. وعادت للمدينة الحياة.. وللناس الابتسامة وللسلطة بريقها.. وللأبيض دورها. وهبطت الطائرات التجارية في المطار الذي كان منسياً في أطراف المدينة.. وما بين قبض الخرطوم للمال.. وروح الأهالي الذين يتوقون للوصول لأم درمان من خلال (338) كيلو متراً بدلاً من (614) كيلو متراً بدأ العمل في ذلك الطريق الحيوي الهام.. الأبيض مرضت ووهنت.. وعطشت وجاعت وأهملت.. ولكنها لم تمت.. الأبيض حرة لا تأكل بثديها.. ولكنها اليوم حتماً تعود عن الأصيل لازم نعود.. شكراً “هارون” فقد أشعلت في مكان رماد الهزائم شموع النصر.