عبد الجليل سليمان

أحياء في المقابر


لـ(يُوسُف حمد) نص موسوم بـ(صورة تذكارية مع بعّاتي) منشوراً في مجلة (البعيد)، وكان قبل ذلك في هذه الصحيفة تحت عنوان (أغاني البعاعيت), يبتدر يُوسُف بأغنية منسوية إلى بعاتي: يدندن بها قائلاً: (يا عيشي الما لميتا/ ويا هشابي الما طقيتا/ ندمان أنا (محمد نجيب) الما كسيتا). ثم يستطرد شارحاً: (الرجل قام من مرقده يندب بها حظه إذ غافله الموت قبل أن يحصد محصوله من الذرة، وقبل أن يقطف صمغ شجر الهشاب، أو يكتسي من قماش الستينيات الفاخر الذي سمته الذاكرة الشعبية “محمد نجيب” إجلالاً للزعيم المصري).

في مقابل ذلك، وبعيداً عنه جغرافياً فإنك ستنال متعة مضاعفة بينما تستغرق في قراءة رواية البرازيلي الفذ (جورجي أمادو) المعنونة بـ( كونكان العوّام – أو الرجل الذي يموت مرتين).

لا شك أن سيرة الموت تكتنفها الكثير من الحكايات الباذخة التي تحمل تفاصيلها مؤونة من المفارقات والطرائف والبكائيات والألم لا نظير لها في مثيلاتها من الحكايات الأخرى، فالموت له صليل وصهيل وله وقار وجلال، وله رائحة كرائحة الحياة تماماً إلا أنها تحتاج لأنفٍ مقلوب ليشمها جيداً، أنفاً فتحتاه إلى أعلى.

وما بين أغاني البعاعيت الذين هم العائدون إلى الحياة من الموتى المفترضين، وكونكان بطل رواية جورجي أمادو الذي مات مرتين، مرة حين ظن ندماؤه في (مجلس شراب) أنه ثمل وهو في الحقيقة كان قد فارق الحياة، فأخذوه إلى رحلة بحرية في قارب، فأطاحته الأمواج العاتية فانقلب فغرق (كونكان) في اللجة ومات مرة أخرى، وبين خبر أمس المنشور على يوميات الأخرى بعودة مذيع يعمل في إذاعة القوات المسلحة إلى الحياة بعد إعلان وفاته بسبب رفض الطبيب منح أسرته شهادة وفاة إلا بعد فحصه (الجثمان) المفترض، فكان أن وجده ينبض بالحياة، فأدخله الإنعاش (ورفع الفراش).

من بين هذه الفانتازيا وتلك الواقعية السحرية، أذكر أنني كنت كتبت قبلئذٍ، أننا لا نحسن للموتى أبداً، يقرر رجال ونساء أميون (طبياً) أن فلاناً أو فلانة (مات/ ماتت) وبسرعة إلى الكفن والمقابر والفاتحة والصدقة أو ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن في مقابر بائسة وبطريقة مثيرة للرثاء.

في ظني أن أعداداً كبيرة من السودانيين دفنوا وهم أحياء، كثيرون جداً ولن يكون مذيع القوات المسلحة الذي لولا أن أنقذه الله من (الوأد) على يد الطبيب (النبيه) آخر من سيدفن حياً، إذ بدا لي و(هذا الاحتمال) معضد بشواهد، إن حكايات البعاعيت ليست خزعبلات كلها، وربما جلها حقائق، فطريقة الدفن أحياناً تتم بسرعة وبإهالة تراب خفيف على (المرحوم)، لذلك فمن الممكن إذا ما استعاد أنفاسه واسترد قواه، أن (يدفر) ويخرج، وربما (ينخنخ) نتيجة للتراب الكثيف الذي (انحشر) في أنفه، فيفر وينفر منه الجميع حتى أمه وأبوه وصاحبته وبنوه، وربما يقتل مرة أخرى فيصبح مثل (كونكان العوام).