الطاهر ساتي

الحلم الأعظم ..!!


:: بعد إنفصال الجنوب بأشهر، إستلم رؤساء التحرير دعوة حضور لمؤتمر صحفي من مكتب النائب الأول لرئيس الجمهورية، فتوافدوا قبل الزمان إلى مكان المؤتمر وهم يتكهنون فيما بينهم عن محاور الحديث المرتقب..منهم من تكهن بأن شكل العلاقة بين الدولتين قد يكون محوراً أساسياً..ومنهم من تكهن بأن ترتيب البيت السوداني بعد إنفصال الجنوب هو القضية ذات المحاور المرتقبة في المؤتمر الصحفي..وهكذا كانت الآمال كبيرة وعظيمة، أي بحجم تحديات المرحلة.. ولكن، بدأ المؤتمر وإنتهى بالحديث عن دور الصندوق القومي الإسكان الشعبي في توفير المساكن للناس ..!!

:: وأحاديث الكبار وأحلام الولاة في الصحف لم تتجاوز محاور السكن والأكل والمياه والنفايات وغيرها من القضايا الموصوفة بسفاسف الأمور في الدول المتحضرة وغير المتحضرة أيضاً..بوسائل الإعلام، تصريحات يومية توحي لغير السوداني بأن غاية الشعب العظمى في السودان هي فقط أن يأكل ويشرب ويتكاثر ويجد مكاناً خالياً من النفايات.. تلك فقط هي الطموحات، كما يعكسها الكبار والولاة.. وعلى سبيل المثال، بالخرطوم في سبيل النظافة، سوف تصدر السلطات – يا دوب – قانوناً يمنع رمي النفايات في الأسواق والشوارع، وكان الخبر رئيسياً بالصحف لحد الإحتفاء..لو كانت فطرتنا سليمة وتربيتنا سوية، لما إحتاج رمي النفايات في الأسواق والشوارع إلى (قانون يمنع).. !!

:: نشاطرهم فرحتهم بالقانون، ولكن بزاوية أخرى ..فالقوى العاملة بالنظافة في الخرطوم مقدرة ب ( 1500 عامل)، وراتب العامل لايتجاوز (450 جنيه)، وحتى هذا المبلغ الهزيل يتأخر صرفه شهراً أو نصف شهر..وكل هذه القوى محرومة من بعض حقوق العمالة التي ينص عليها قانون العمل، بحيث لا تشملهم منحة (المائة جنيه)، ثم الأدهى والأمر لا تشملهم مظلة التأمين الصحي وهم الأقرب إلى بؤر الأمراض والمخاطر الصحية، ولاتشملهم مظلة التأمين الإجتماعي..هي عمالة مؤقتة و- مٌستغلة – غير مستوعبة في الخدمة العامة، رغم أن السواد الأعظم منهم يعمل بهذه المهنة منذ سنوات، أي متجاوزا الثلاثة أشهر التي تُثبت العامل وكل حقوق خدمته..فهل عمالة بهذا الوضع يرجى منها أن إزالة ثلاثة ألاف طن يومياً من شوارع وأسواق الخرطوم ..؟؟

:: وبالمناسبة، رسوم النفايات التي تتحصلها محليات الخرطوم شهرياً من المنازل والمؤسسات تترواح ما بين ( 7/8 مليار جنيه).. وقيمة رسوم إعلانات الشوارع التي تتحصلها محليات الخرطوم شهريا تتراوح ما بين ( 40/ 50 مليار جنيه).. وناهيك عن العوائد ورسوم الأسواق والمتاجر، ومع ذلك تعجز المحليات عن النظافة، وعن تسليم عامل النظافة أجره قبل أن يجف عرقه..فالمحليات أكبر ثغرة في خدمات الناس وفي إدارة الأموال العامة المخصصة للخدمات، وخدمة النظافة مجرد نموذج ..فالسواد الأعظم من عمال النظافة يعملون بنظام الورديتين ( ليعشيوا)، وهذا ما يعرضهم إلى المخاطر الصحية، علماً بأنهم يعملون ( بلا تأمين صحي)..!!

:: ولو كانت الحكومات – الولائية منها و المحلية – واعية ورشيدة وحريصة على نظافة العاصمة وكل المدائن، لتركت أمر هذه النظافة للقطاع الخاص وشركاته وإكتفت بالإشراف والرقابة والمحاسبة..هي تعلم بأن من الكون يضج بشركات نظافة عالمية وأخرى اقليمية، متخصصة وذات عدة وعتاد ولها تجارب مثالية بالمدائن الكبرى..ولكن النهج الحكومي لم – ولن – يفتح فرص العمل لهذه الشركات المتخصصة.. فالمليارات التي لا تسد منها العمالة رمقها أهم للولاة والمعتمدين من النظافة.. ولذلك، لن يغادر طموح الناس محطة الأكل والشراب والتكاثر في أحياء خالية من النفايات ..!!