عبد الباقي الظافر

لم أقل نعم أبداً ..!!


السنوات مرت بسرعة، ووجدت نفسي أمام صندوق تقرير المصير.. نعم تعني وطناً جديداً ومستقبلا زاهرا وتجاوزاً للعنصرية.. لم أستطع أن أتزوج زميلتي مودة لأنني من أصول جنوبية.. رفض الانفصال يعني وحدة على أسس مائلة.. ولكن (لا للانفصال) تعني أنني وأمي علوية سنكون في بلد واحد.. ترددت كثيراً أمام صندوق الاقتراع.. بدأت الذكريات تحاصرني،
أحداث صغيرة ترفض أن تغادر ذاكرتي.. كنت ابن سبع سنوات حينما أخذني والدي الطيب الزين إلى مدرسة حلفا الجديدة.. أبي كاد أن يتشاجر مع الناظر.. علت الأصوات في المكتب الصغير.. حينما حدق أبي في وجهي ووجدني حزينا طلب مني برفق أن أنتظره خارج المكتب- وقتها- كنت قد استوعبت أن المدير وأبي يتجادلان حول اسمي.. عدت إلى البيت ووجدت أمي علوية في انتظاري.. كان على أمي أن تقنعني؛ أنني من دون الآخرين امتلك اسمين.. لم يكن عقلي الصغير يستوعب ذلك، ولا حتى أقراني الصغار في المدرسة.
هذه السيدة العظيمة استطاعت بمرور الوقت أن تخبرني- دون أن تجرح شعوري- أنها أمي وليست أمي في ذات الوقت.. لاحقا استوعبت تفاصيل القصة، كان أبي ينحدر من قبيلة الدينكا وتزوج من قبيلة اللاتوكا.. الأسرة الصغيرة جاءت واستقرت في خشم القربة بعد قيام المشروع الزراعي.. سافر أبي عام ١٩٨٣ والتحق بالحركة الشعبية.. تركني ابن ثلاث سنوات في عهدة أمي.. بعد عام مضت أمي تبحث عن أبي.. جيران أمي اقترحوا عليها أن تمضي وحدها، وتترك ابنها ماجد معهم.. ولكن أمي أدوك لم تعد أبدا..كل الأخبار تقول إن أمي ماتت قبل أن تصل إلى معسكر الجيش الشعبي.. وظل أبي في الغابة نحو عشرين عاما.
حين وصلت الثانوي كنت أفضل الالتحاق بخدمة الجيش.. العسكرية كانت عالم جميل وغامض لشاب مراهق يبحث عن جذوره.. أمي علوية التي لم تنجب أبدا كانت تريدني أن أحقق لها حلم أم الدكتور.. أبي الطيب الزين وجد المعادلة أن أدرس الطب ثم التحق بالسلاح الطبي.. تغيرت الكثير من أفكاري في كلية الطب.. ازدادت حساسيتي، بدأت أشعر أنني مواطن جنوبي مقهور بعد أن جمعني حب جارف بزميلتي مودة الجعلي… ضاع أبي الأول في الغابة.. تاهت أمي في طريق النضال، وماتت قبل أن تصل إلى الميدان .. حتى والدي الذي رعاني مات قبل أن يراني طبيبا..لم يتبقَ لي في الدنيا سوى حاجة علوية.
حينما تخرجت في العام ٢٠٠٦ كان السلام للتو قد بات واقعا في بلادي الممزقة بحرب أهلية.. الجنرالات العائدون كانوا يتحدثون باحترام عن والدي دينق البينو الذي مات بعد أن داهمته حمى ملاريا في مناطق توريت.. حاولوا معي أن أحمل الراية… أخبرني أحد أصدقاء أبي أن مستقبلي سيكون باهرا في صفوف الحركة الشعبية.. رغم صغر سني بدأت أصعد بسرعة.. الشيء الوحيد الذي لم أنساه أمي حاجة علوية .. إنها نقطة ضعفي.. لم يتبق لها في الحياة سنداً سواي.
ما زلت في حيرتي أمام صندوق الاقتراع..عقلي يطلب مني أن كون وفيا لشعب الجنوب.. قلبي يذكرني بأمي حاجة علوية التي تنتظرني بالغداء.. كيف سأنظر في وجهها.. ماذا لو سألتني عن وجهة صوتي.. أنا لم أكذب عليها أبدا.. مررت القلم بسرعة على كلمة نعم للانفصال.. حينما اقتربت من الصندوق سمعت صوت أمي تسألني كالعادة (ماشي وين يا ماجد).. بذات القلم وضعت علامة صاح على عبارة (لا للانفصال).. بات صوتي تالفاً، وخرجت من المركز مبتسماً.