حوارات ولقاءات

الفريق طيار الفاتح عروة : أحلام الوحدة لبعض المسؤولين أفقدت السودان الكثير وجرّتنا للحرب مجدداً


أحلام الوحدة لبعض المسؤولين أفقدت السودان الكثير وجرّتنا للحرب مجدداً

(الترتيبات الأمنية) قاصرة وأبعدت رؤية القوات المسلحة وهي سبب الأوضاع الحالية

التوقيع على بروتوكول (أبيي) أضعف موقف السودان في القضية

كان علينا (قبض الثمن) ومعالجة كل مشاكلنا الخارجية قبل توقيعنا على نيفاشا

تم إبعادي وتغييبي بشكل متعمد وقلت رأيي ولكن (…)

لا أشعر بالندم حينما أزور الجنوب وأديت مهمتي بشرف وباستقراره يستقر السودان

نواصل في هذه الحلقة الرابعة لقاءنا مع الفريق طيار الفاتح عروة الذي قدم فيه رؤاه حول القضايا السياسية والاقتصادية السابقة والحاضرة والمستقبلية.. فيما خص (الصيحة) ببعض من أسراره الخاصة المتصلة بعدد من الجوانب والقضايا التي كان حاضراً ومشاركاً فيها وعلاقته بعدد من الشخصيات العالمية على رأسها الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي وزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن وكارلوس بجانب تفاصيل جديدة يذكرها لأول مرة مرتبطة بوقائع محكمة الفلاشا.

في هذه الحلقة يتحدث عروة لـ(الصيحة) عن آرائه حول اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) الموقع بين الحكومة والحركة الشعبية في يناير 2005م، ويتطرق في هذه الحلقة لما اعتبره أخطاء صاحبتها وقادت لعودة الحرب مجدداً بين دولتي السودان واندلاعها في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.

++

ــ انتهينا في الحلقة السابقة لإشارة مهمة صدرت منك حينما أشرت لوجود أخطاء في اتفاقية نيفاشا، هل يمكن أن تحدد لنا بعضها؟

في البدء دعنا لا نربط تلك الأخطاء بشخص أو أشخاص معينين ولكنها أخطاء وقعت، وكان يجب النظر والتعاطي معها بشجاعة ومحاولة معالجتها بدلاً من الانكفاء عليها ومحاولة التغطية أو تبريرها لأنها قد أثرت لاحقاً بشكل كبير عند التطبيق. أعتقد أن أول الأخطاء هو التوقيع على الاتفاق قبل أن نقبض الثمن كاملاً، وقد ينظر البعض لكلمة (قبض الثمن) هذه باعتباره يمثل (نوعاً من الصفقة) ولكنني حينما أقولها في هذا الموضع فإن الأمر لم يكن صفقة بقدر ما هو مبدأ، وفي ذات الوقت فإننا كنا مجابهين بهجمة شرسة ونعلم حجم المؤامرة، ونستوعب مقدار حرص الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص على إنجاز هذا الاتفاق وبالتالي باتت في أيدينا ورقة ما كان ينبغي لنا التفريط فيها أبداً قبل ضمان حقوقنا ومصالحنا، ولكن للأسف الشديد تم التخلي عنها بكل سهولة فوقتها كنا في موقف كان يمكن أن يكفل لنا إنهاء جميع مشاكلنا في تلك اللحظة.

أعلم أنك تريد أن تسألني (لماذا صمت ولم أفعل شيئاً واكتفيت بدور المتفرج؟) وحتى لا تضطر لمقاطعتي فدعني أتطوع بالإجابة على هذا السؤال قبل أن تطرحه، لقد كتبت تقارير من مقر عملي ببعثة السودان بالأمم المتحدة بنيويورك عن المخططات التي تقوم بها المجموعات المناهضة للسودان وتخطيطهم فيما يتعلق بدارفور وكيفية استغلالها لمرحلة ما بعد التوقيع على اتفاق السلام مع الحركة الشعبية، ولكن كما يقال(المكتولة ما بتسمع الصيحة)، بخلاف ذلك توجد بعض الأشياء التي أثبتها عملياً.

لقد قمت برصد كامل للاهتمام الأمريكي وخاصة تعيين الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش للسيناتور جون دانفورث مبعوثاً خاصاً للسودان ثم أصبح مندوباً للولايات المتحدة الأمريكية بالأمم المتحدة، وقد تابعت اهتمامه بقضية جنوب السودان وكيفية التهافت والتكالب على إمكانية إنهاء الصراع تحت الإشراف الأمريكي وكان هذا الأمر مدار تنافس وتصارع ما بين دانفورث الذي كان يمثل اليمين المسيحي الذي تستند عليه القوى الجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية وبين تيار يمكن أن نطلق عليه (الكارهون للنظام في السودان) من الديمقراطيين الذين كانوا يعملون مع الحركة الشعبية ثم لاحقاً انتقلوا للعمل مع حركات دارفور بعدما سلمتهم لهم الحركة الشعبية في أعقاب التوقيع على اتفاق نيفاشا وكنا نتابع جميع تلك المعطيات بدقة وتحدثنا فيها كثيراً.

وأذكر أيضاً حينما حضرت اجتماع مجلس الأمن الذي عقد بالعاصمة الكينية نيروبي عام 2004 م وهو الثاني في تاريخ الأمم المتحدة الذي يعقد خارج مقر الأمم المتحدة، خصيصاً بشأن القضية السودانية لما لها من اهتمام أمريكي ووقتها لم نقم بصرف شيك ذلك الاجتماع لصالحنا فخلال ذلك الاجتماع كانت الورقة التي أعدت بغرض تقديمها كبيان من المجلس غير كافية لوجهة نظرنا، ولذلك أصررت أثناء التفاوض على إدخال جميع التعديلات التي ترضينا كسودان وذلك بوجود الأستاذ علي عثمان ود. جون قرنق في ذات الحجرة ومعنا دانفورث وقد ترك لي الأستاذ علي عثمان حرية النقاش ولم يعترض أي شخص سواء كان دانفورث أو د. جون قرنق على ما طرحناه ومررنا تلك الورقة لأننا وقتها كانت لدينا اليد العليا في نجاح هذا الاجتماع لارتباط نجاحه بشكل مفصلي بالنسبة لدانفورث ولكل الإدارة الأمريكية. وكان يمكن أن يتبع نفس الموقف عند التوقيع على الاتفاقية ووضع هذه العوامل في الاعتبار.

ـــ لكن إجابتك الاستباقية لسؤالي الذي افترضته تبدو غير كافية بالنسبة لي فإذا كانت لديك رؤى قادرة على استبصار الأخطاء فلماذا لم تسع من خلال وجودك ببعثة السودان بالأمم المتحدة وحتى صلتك المباشرة بالرئيس لتلافي تلك الأخطاء في الاتفاقية؟

أقول لك وبكل وضوح، لقد كنتُ مغيباً تماماً خلال هذه الفترة مع أنه كان من الأسلم والأوجب والمفترض في مثل هذه الظروف العمل في كل الاتجاهات بتنسيق تام ورؤية شمولية وموحدة. وعليك أن تسأل الذين تعمدوا تغييبي عن هذا الأمر، ولا أستطيع أن أحدد لك دوافعهم في ذلك التغييب إذا ما كان مرتبطاً بمواقف ولا استطيع القول بأنها كانت تنافسية أو كيدية، وما أستطيع أن أقوله لك بأنه حدث تغييبي بشكل متعمد من هذه المسألة، وأنا لم أكن بحاجة لها، أما الذين تعمدوا تغييبي يومها فإنهم الآن يقرأون حديثي هذا ويعلمون ذلك تماماً، وينسحب على هذا الخطأ أيضاً ما تلى ذلك من أحداث بملف دارفور والذي كان يستوجب حسمه في لحظة توقيع اتفاق نيفاشا بعدم العودة إليه وحله في نفس الوقت، وهو ما أعتبره في تقديري خطاً ثانياً.

أما الخطأ الثالث الذي حدث خلال المفاوضات ممثل في اتفاق الترتيبات الأمنية وعلى ما أعتقد فقد تم استبعاد المتخصصين منها سواء كانوا بالقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية والذين تم تغييب وجهات نظرهم والتي ربما اعتبرها البعض معوقة للوصول لاتفاق، وفي اعتقادي أن تلك الاتفاقية الأمنية حوت أخطاء كانت لها مترتباتها ما بعد تطبيق الاتفاق, قد يقلل البعض من أهميتها، ولكنها الآن أثبتت خطورتها، وتأكد صدقها بعد التنفيذ وانقضاء السنوات وتطبيق الاستفتاء وما أعقبها من اندلاع الحرب حينما اتضح وجود قصور بهذه الاتفاقية وأن القوات المسلحة لم تتفق على هذا الأمر وإنما فُرض عليها فرضاً.

أما الخطأ الرابع فهو بحق (خطيئة) وليس خطأ هو ما تم من ترتيبات فيما يتصل بأبيي، فهذه المنطقة استناداً لإعلان المبادئ الصادر عن دول الإيقاد التي تعتبر الوثيقة المرجعية لمبادرة الإيقاد ثم بروتوكول ميشاكوس شمال خط حدود 1956م، وما أفضت إليه مفاوضاتها والبروتوكول الخاص بها يعتبر أكبر خطأ بسبب الاعتماد على لجنة نعلم أنها غير محايدة سلفاً، فكيف نوافق على مثل هذه اللجنة، وفي تقديري أن تهافت التوقيع على الاتفاقية في ذلك الوقت هو الذي أضعف موقف السودان في قضية أبيي إذ كان بإمكاننا تجنب ما وصلنا إليه، وأبيي وقضيتها لم تكن بهذه الصورة وباتت القضية معقدة وغير سهلة فهي ليست قضية أرض متنازع عليها ولكنها مساحة تشهد تداخلات قبلية ونزاعات محلية ولديها تاريخ مختلف، ولم يكن من السهولة بمكان اللجوء للجنة من جماعة متحيزة (لا ترعى فينا إلاً ولا ذمة) ونوافق أن يكون قرارها نهائياً لنضع بين يدها مصيرنا، وعقدة أبيي هذه ستظل بمثابة (مسمار) في نعش العلاقات بين السودان وجنوب السودان، وهو أمر كان بالإمكان تجنبه خلال ذلك الوقت بسهولة ويسر، طالما كان القلم بيدنا للتوقيع أو عدمه، ولهذا اعتبرتها (خطيئة) وليست خطأً.

أما الخطأ الآخر والقاتل أيضاً وهو عدم الاستعداد لما بعد الاستفتاء، فالكثيرون كانوا يحلمون بأنه ستكون هناك وحدة في حين أن صاحب أي بصيرة بسيطة، كان يعلم أن نتيجة الاستفتاء هي انفصال جنوب السودان لأسباب كثيرة وموضوعية وواضحة للعيان، إلا أولئك الذين رفضوا استيعاب هذه الحقيقة، وبالتالي ظل جزء كبير من السياسيين المسؤولين بالدولة وخارجها يتعاملون وكأنما ستفضي النتيجة لاختيار الوحدة الطوعية مما جعلهم يُّضيعون على أنفسهم فرصة كيفية الحفاظ على مستقبل العلاقة بين البلدين بعد الانفصال، وتوجد الكثير من الملفات لم تعالج أو حتى تناقش إلا بعد أن أصبح الانفصال حقيقة واقعة، ووقتها لم يكن هناك وقت لدرء كل ذلك، فظلت الأمور معلقة، وقد كان الجنوب عملياً خلال الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقية يتعامل كدولة منفصلة، ولم يفتح الله تعالى بصيرة كل هؤلاء بأنهم في حقيقة الأمر يتعاملون مع دولة منفصلة، وبالتالي تراكمت المشاكل وأصبح حلها معضلة، بل الأدهى والأمر أن كثيراً من المسؤولين بالدولة قاموا بصرف أموال طائلة اعتقاداً منهم بأنهم سيحافظون على الوحدة، فيما كان الطرف الآخر يعتبر ما يصرف عليه هو حق من حقوقه وليس منة أو كرماً من أحد، وتلك الأخطاء مثلت خطايا دفع السودان ثمنها أضعافاً مضاعفة فيما بعد.

دعني هنا أذكر لك حقيقة طريفة، فنحن كشركة زين السودان بدأنا نخطط ونجهز قبل عام كامل قبل الاستفتاء لشبكة اتصالات في دولة منفصلة، لأنني كنت على قناعة بأن الجنوب منفصل لا محالة، فنحن كشركة خاصة لم نتفاجأ بهذا القرار أو نرتبك وبإمكانك مقارنة هذا الأمر بما حدث للسودان بعد الاستفتاء حينما تلمح الدهشة والذهول بأعين بعض المسؤولين جراء اختيار الجنوب للانفصال رغم أن النتيجة كانت واضحة وضوح الشمس واحتاجت فقط تدشينها العلني عبر صناديق الاستفتاء.

ــ إذاً لماذا لم تعالج تلك الأخطاء خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت التوقيع على الاتفاقية وتطبيقها؟

خلال الفترة الانتقالية كان يجب تركيز التفكير في كيفية تجنُّب المشكلات في المستقبل، ونجعل من الجنوب دولة مستقرة قائمة على المؤسسات والتعامل معها وتوطين التجارة بين البلدين، وضمان المصالح المشتركة، وهذا كان يمكن التوصل إليه خلال سنوات الفترة الانتقالية الست التي أعقبت الاتفاق، ولكن كان تأجيل المشكلات هو الديدن الذي صاحب كل ذلك، وأنا لا أعلم إن كان بغفلة أو تغافل، فأنا لا أستطيع أن أحكم هنا على الغير، وفي تقديري أن السودان لو ركز على توطين العلاقة والتأكيد على أن الجنوب يجب أن يكون مستقلاً ومستقراً، سيما أن استقراره هو استقرار للشمال ومصلحة الجنوب في التجارة مع الشمال والتعايش ليعود للتوأمين المتماثلين ليعيشا قريبين دون ضرورة أن يصبحا شيئاً واحداً. دعني أقول بصريح العبارة إن الوهم هذا الذي عاش فيه حالمو الوحده هو الذي أفقد السودان كل شيء وجره إلى الحرب مرة أخرى، وأخذ من أعمارنا سنين طويلة، ولكن المؤسف في الأمر بأنه بدلاً من التعلم من أخطائنا تأخذنا العزة بالإثم ونمارس الانكفاء بغية إخفاء الأخطاء بدلاً من إصلاحها.

ودعني أقول هنا بأنه رغم كل شيء وما ذكرته حول هذه الاتفاقية فإن الشخص الوحيد الذي كان منتبهاً لكل ذلك هو الرئيس البشير، ولذلك فقد اتخذ في أوقات عصيبة للغاية القرارات الإستراتيجية التي رويت لك أمثلة لبعضها في الحلقة السابقة رغماً عن الضغوط الداخليه التي مورست عليه.

ــ ألم ينتابك لاحقاً إحساس الندم وأنت تعود لدولة الجنوب بقبعة التنفيذي الأول لإحدى شركات الاتصال العالمية بسبب خوضك غمار الحرب فيه كأحد الجنرالات الكبار في الجيش السوداني الذي قاتل في الجنوب؟

إجاباتي السابقة على عدد من الأسئلة ستنبئك عن عدم إحساسي مطلقاً بالندم، بل على العكس كنت أحس بالسعادة، لأن تلك كانت قناعتي وإعتقادي منذ البداية وحينما حاربت بالجنوب فقد قاتلت بشرف الجندية والواجب وقناعاتي كانت هي السلام المشرف، وتحقيقه وحينما التقيت بقيادات الجنوب لم تكن هناك مرارات والعكس تماماً فقد التقيت الرئيس سلفاكير ميارديت عدة مرات ــ وبالمناسبة هو زميل سابق بالقوات المسلحة وكان ضابطاً بالاستخبارات العسكرية ولذلك فنحن نفهم بعضنا ونتحدث بطريقة متفاهمة وحينما قاتلنا بعضنا البعض كنا قد خضنا تلك الحروب المفروضة بشرف، ولا نتعاطى السياسة بالطريقه التي يتعاطها السياسيون المحترفون، والتقيت كذلك بالكثير من الإخوة الجنوبيين الذين عملنا سوياً بالشمال أو في أماكن أخرى، ولذلك كل شيء كان طبيعياً، وأنا قناعتي بأن استقرار الجنوب فيه خير له وللشمال أيضاً في حال إبعادنا لجميع المنغصات والمخربات في كلا البلدين، وبالتالي أنا لا يمكنني النظر للجنوب باعتباره عدواً لأنني منذ البداية ما نظرت إليه كمستعمرة. ولذلك لا يوجد ما يدعوني للنظر إليه بنظرة مختلفة وأنا أنظر للأمام بثقة ويجب أن نتحدث بشفافية وصراحة ولا نداري الكلمات أو نتخفى خلف معانيها العقيمة التي لا توصلنا لأي حلول.

-نواصل-

طالع في الحلقة الخامسة غداً

لا أعتقد أن بكري هو خليفة الرئيس ووجوده مهم لمعاونة البشير في مشوار انتقال الخلافة

علي عثمان سيكون فاعلاً لما له من صفات أما نافع فسيكون مؤثراً في الحزب

أستبعد أن تكون القيادات التي تنحَّت مؤخراً هي البديل لخلافة البشير لهذا السبب (…)

لو كان وزير الدفاع مقصِّراً لما تركه البشير في موقعه يوماً واحداً

القوات المسلحة شهدت أكبر نقلة في تاريخها ويجب الإبقاء على الدفاع الشعبي

الصيحة