الطيب مصطفى

أكل لحوم الموتى بجنوب السودان (3-3)


إذا كنا قد ابتدرنا المقالين السابقين بخبر إجبار قوات الرئيس الجنوبي سلفاكير أسرى غريمه رياك مشار على أكل قتلاهم مع الخبر الآخر الصاعق حول قرار الاتحاد الأفريقي وضع دولة جنوب السودان تحت الوصاية بعد أن اقتنع الاتحاد الأفريقي بفشل الدولة الجديدة الغارقة في الحرب الأهلية، فإن ذلك يكشف بل يثبت صحة ما كنا ندندن حوله من قديم أنه من الأحرى بالجنوبيين الذين لا يحتملون بعضهم بعضاً وتبلغ درجة فجورهم في الخصومة هذه الوحشية التي تجعلهم يأكلون لحوم بعضهم بعضاً بدون أن يطرف لهم جفن.. أقول إن الأحرى ألا يحتملوا الأبعدين من الشماليين ممن ظلوا يبغضون ويخوضون معهم الحروب حتى قبل خروج المستعمر الإنجليزي.

ذكّرنا بتمرد توريت عام 1955م ثم ذكّرنا بأحداث الاثنين الأسود في قلب الخرطوم في عام 2005م بعد توقيع نيفاشا والذي كشف حقيقة أن التمرد الذي انفجر في أحراش الاستوائية امتد مع الأيام والسنون وتشعب لدرجة أن ينفجر في قلب الخرطوم مما يعني أن كل الحلول التي ابتدعها السياسيون طوال نصف قرن من الزمان لاستبقاء الجنوب في خريطة السودان الواحد لم تجدِ في حل المشكلة ووقف الحرب التي عطلت مسيرة السودان، وكان أبلغ دليل أن تنفجر الخرطوم بعد اتفاقية نيفاشا التي ظن الواهمون أنها ستحقق السلام والاستقرار. جاء الاستفتاء بعد ذلك ليعبر عن حقيقة لطالما غفل عنها الغافلون أن المستحيل لن يصبح ممكناً وأن الجمل لن يستطيع الدخول في سم الخياط وأنه من الأوهام الكبرى أن تحلم بتزويج القط من الفأر أو توحيد الجنوب مع الشمال.

قامت دولة في جنوب السودان بعد استفتاء مشهود قرر فيه أبناء الجنوب أن يفرزوا عيشتهم من (المندكورو) الذين ظلوا يبغضون ويقاتلون ثم انكشف المستور حين اندلعت الحرب الأهلية بين أبناء الجنوب وحكم الاتحاد الافريقي بأن القبائل الجنوبية لا يمكن أن تتعايش مع بعضها ناهيك عن أن تتعايش مع الشمال والشماليين.

لقد اتضح للعالم أجمع الآن أن الجنوب لم ينضج بعد ليكوّن هوية مشتركة تجمع شعبه في وطن واحد وها هم الأمريكان يتلاومون على فصله من السودان الذي كان يئن تحت وطأة تلك الوحدة الملعونة، مما أرهق كاهله وتسبب في كل الاضطرابات السياسية التي عطلت مسيرته وها هي افريقيا تقرر أن تحكم الجنوب بعيداً عن نخبه وقياداته السياسية، فمن يقنع بعض الموهومين أن الشمال دفع ثمناً غالياً جراء استمساكه بالجنوب طوال العقود الماضية منذ الاستقلال..؟ من يقنع بعض أفراد قبيلة النعام أن الشمال الذي يمور بالأزمات السياسية والاقتصادية كان سيكون أكثر عافية لو كان استمع إلى نصيحة من محّضوه النصح من قديم وفيهم من جهر بالقول وفيهم من قاله بين خاصته وأذكر من هؤلاء د. عبد الله الطيب والأستاذ الطيب صالح؟.

لقد كان السودان موعوداً ببلوغ الثريا عشية الاستقلال لكن صندوق الشرور أو قل صندوق باندورا الذي فتحه الانجليز قبل أن يخرجوا هو الذي عطّل مسيرته ورغم ذلك تجد من قصار النظر من لا يزال يبكي على وحدة الدماء والدموع.

لقد أهدرنا موارد كثيرة في وحدة مستحيلة ورغم ما تعانيه دولة الجنوب من جوع وفقر وموت وحرب هناك من يريد أن يزيد من أوجاع السودان بضم الجنوب مرة أخرى حتى يضيف إلى همومنا همًا أكبر ويغرقنا في الحرب من جديد في وقت لا نزال نعاني فيه من الحروب المشتعلة في جنوب كردفان والنيل الأزرق وبعض مناطق دارفور.

ما حدث في حي الفيحاء بمدينة الحاج يوسف قبل يومين مما نشرته صحيفة (الدار) ثم صحف أخرى من بينها (الصيحة) عن اعتداء تعرضت له أسرة المواطن عثمان مصطفى بالسواطير والأسلحة البيضاء من مجموعة كبيرة من أبناء الجنوب يذكّر بما كنا نعاني منه قبل الانفصال بل بأحداث الإثنين الأسود وها هي اللجان الشعبية بالمنطقة تطالب بترحيل اللاجئين الجنوبيين خارج الأحياء السكنية سيما مع تكاثر بلاغات النيقرز والاتجار في الخمور البلدية وغيرها.

إذا كان الرئيس البشير قد تحدّث عن الخلايا النائمة الموجودة بالعاصمة، فماذا تنتظر السلطات الأمنية لتتحرك في سبيل تأمين العاصمة ثم أهم من ذلك.. أما آن لقصار النظر وهم يرون الآلاف يتدفقون يومياً نحو السودان فراراً من جحيم الحرب وأكل لحوم الموتى.. أما آن لهم أن يكفوا عن إطلاق العبارات التي تفقع المرارة حول الحريات الأربع وغير ذلك من التخرُّصات وكأن بلادنا ناقصة؟!.