تحقيقات وتقارير

ثلاثة أسباب وراء فشل المبادرة الألمانية لحل الأزمة السودانية


{ منيت المبادرة الألمانية التي أعلنتها برلين قبل شهور للعب دور في حل القضية السودانية الأكثر تعقيداً من القضية الفلسطينية، وأصيبت ألمانيا بخيبة أمل أكثر من السودانيين في طرفي المعادلة الحكومة والمعارضة بعد أن فشلت جهود برلين، لكن السؤال ما هي الأسباب التي أجهضت المبادرة الألمانية؟؟ وقبل ذلك متى بدأت ألمانيا تمد رأسها بعيداً عن الاتحاد الأوروبي؟ ولماذا؟؟ الإجابة عن السؤال الأخير تقود للإمساك بأسباب فشل مبادرة برلين.. أولاً ظلت ألمانيا لسنوات طويلة بعيدة عن ما يحدث في القارة الأفريقية وأفسحت المجال لثلاث دول: الولايات المتحدة الأمريكية التي تجر من ورائها الأوروبيين بغير بصيرة أو هدى، فرنسا التي حافظت على وجودها في أفريقيا من خلال الدول التي خضعت لاستعمار باريس وبريطانيا من خلال رابطة دول (الكمنولث).. لكن ألمانيا قبل ثلاث سنوات وضعت لنفسها إستراتيجية خارجية وخصت أفريقيا بفصل كامل، وأشارت في إستراتيجيتها إلى ضرورة المساهمة في إطفاء بؤر الحريق والمساعدة في فض النزاعات في السودان وجنوب السودان.. لذلك انطلق الاهتمام الألماني بالنزاع في السودان مسنوداً بتلك الخلفية المهمة.. ودولة حديثة عهد بمثل هذه النزاعات الشائكة وجدت نفسها في عين العاصفة حينما طلب منها الوسيط الأفريقي “ثامبو أمبيكي” التدخل بطريقة ناعمة وتقريب المسافات المتباعدة بين الأطراف المتصارعة في السودان.. لكن السؤال لماذا اختار “أمبيكي” ألمانيا وهو يعلم أن الولايات المتحدة كانت هي الفاعل الرئيسي والأب الشرعي لمولود اتفاقية (نيفاشا) التي أنهت الصراع بين الشمال والجنوب ولم تحقق السلام؟؟
“أمبيكي” الذي اكتسب خبرة عريضة في المشكل السوداني أكثر إدراكاً من غيره لتعقيدات العلاقة بين الخرطوم وواشنطن، وأن الحكومة السودانية ثقتها في واشنطن ضعيفة جداً ولا تطيق تقديم وصفة علاجية جديدة بعد أن أجهضت الخرطوم اتفاق (نافع- عقار) الذي يعدّ ثمرة لجهود أمريكية من وراء حجاب، وأن إثيوبيا كانت الضيف فقط الذي جمع الفرقاء، لذلك وجد “أمبيكي” ضالته في ألمانيا التي تتطلع لدور في القارة الأفريقية وهي غير مهتمة لكل الأطراف بالانحياز لجهة على حساب الأخرى.. لكن ألمانيا دخلت (معمعة) القضية السودانية وهي لا تملك في يدها عصي كثيرة تهش بها الرافضين ولا مغريات يسيل لها لعاب المتفاوضين.. فالمصالح الألمانية في السودان ضعيفة جداً، ولا تتعدى بضعة مشروعات صغيرة، ومساعداتها قدمتها برلين لبعض المعارضين في المنفى.. وتبني منظمة ألمانية صغيرة لمؤتمر المهمشين في الأرض.. دون ذلك فإن الحكومة الألمانية ما كانت لها اهتمامات كبيرة بالشأن السوداني ولا خلفية للصراع الأيديولوجي السياسي وتنافر الأطراف التي جمعتها في برلين برضا الحكومة السودانية من أجل الوصول لنقطة تلاقٍ تنقذ المبادرة الأفريقية من الفشل وبلوغ الطريق المسدود!!
المبادرة الألمانية حملت في جنباتها أسباب فشلها منذ أن طرقت أبواب السودان.. فعطفاً على الأسباب المذكورة آنفاً، فإن المبادرة طرحت في توقيت خاطئ وقراءة متعجلة لمواقف أطراف الأزمة.. فالأحزاب المعارضة التي اختارت توحيد موقفها التفاوضي مع حاملي السلاح تطرح مشروعاً تفكيكياً لإسقاط النظام وإزاحته من السلطة، وتعدّ التفاوض مع الحكومة آلية لإسقاطها وإزاحتها من الوجود وليس وسيلة لبلوغ الاستقرار والتراضي.. وهو ذات موقف القوى التي تحمل السلاح، الشيء الذي يجعل التفاوض عسيراً والتلاقي مستحيلاً.. وترفض القوى المعارضة من حيث المبدأ إجراء الانتخابات في الوقت الراهن وتطالب بإيقافها فوراً والاتكاء على مشروعية التراضي وتكوين حكومة انتقالية يكون لـ”البشير” وحزبه المؤتمر الوطني تمثيل هامشي فيها.. وتضطلع تلك الحكومة الانتقالية بمهام تصفية الوجود الإسلامي في الدولة، وتفكيك القوات النظامية بزعم أن هذه القوات تتبع لحزب المؤتمر الوطني.. ومجرد قبول المؤتمر الوطني الحاكم بالطعن في قومية القوات المسلحة والشرطة والأمن، فإن هذه الأجهزة التي بيدها (70%) من أدوات اللعبة السياسية ستختار الطرق الكفيلة بالدفاع عن نفسها، وبالتالي بات الحوار متعثراً جداً مع المعارضة المسلحة والمعارضة السياسية، في الوقت الذي تتمسك فيه الحكومة بعدة لاءات أولاها لا تراجع عن الانتخابات ولا مساس بالقوات المسلحة والشرطة والأمن.. ولا لجيشين في دولة واحدة.. ولا لتجاوز منبر الدوحة لمتمردي دارفور ومنبر أديس أبابا لمتمردي قطاع الشمال.
إزاء هذه العقبات الكبيرة انفضت مبادرة ألمانيا للفشل الذريع، رغم محاولات د. “مصطفى عثمان” رئيس القطاع السياسي القبول بنتائج برلين وإمكانية بحثها والنظر فيها، إلا أن الرئيس “عمر البشير” اختار الوضوح بدلاً عن (اللولوة) وعدّ مخرجات اجتماع برلين مرفوضة، في الوقت الذي رفضت الحركة الشعبية (قطاع الشمال) أيضاً مقررات برلين رغم مشاركتها بالقول إن صلاحية تلك المقررات (60) يوماً فقط مضى منها حتى اليوم أكثر من نصف الشهر.. ويجد الوسيط “ثامبو أمبيكي” نفسه في وضع لا يحسد عليه، موقف يملي عليه مغادرة محطة الأزمة السودانية من تلقاء نفسه وتقديم استقالته من رئاسة اللجنة رفيعة المستوى بعد أن ظل الفشل ملازماً له منذ أن أسند إليه الاتحاد الأفريقي القيام بدور الوسيط، وأرهق الرجل نفسه بالأسفار والترحال والتفاوض غير المجدي مع أطراف من الصعب جداً التوافق بينها على مشتركات، ولها رغبة عارمة في خوض الحرب والتصعيد السياسي.. فهل يقدم “أمبيكي” استقالته قبل حلول أبريل القادم؟؟ أم يبحث عن مبادرة جديدة لدولة أكثر تأثيراً على الأطراف السودانية من ألمانيا؟؟ ولماذا لا يلجأ “أمبيكي” إلى السعودية والإمارات ومصر لإنقاذ نفسه أولاً من الفشل في خريف العمر، بعد أن اتسمت سنوات حكمه في دولته جنوب أفريقيا بالنجاح؟؟
{ الجنرال “إبراهيم سليمان” والمعركة الأخيرة
يخوض اثنان من الرموز والقيادات البارزة، هما الجنرال “إبراهيم سليمان” ود. “أحمد بابكر نهار”، الانتخابات الحالية في دوائر مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور سابقاً وحاضرة ولاية شمال دارفور حالياً.. ولكن للفاشر دلالاتها الكبيرة بالنسبة لأهل دارفور.. الجنرال “إبراهيم سليمان” رئيس أركان الجيش السابق وحاكم ولاية شمال دارفور السابق يخوض الانتخابات نيابة عن حزبه المؤتمر الوطني بدائرة الفاشر في مواجهة ثلاثة مرشحين، ويواجه صعوبات كبيرة نظراً لقوة وصلابة المنافسين الآخرين من حركة التحرير والعدالة جناح (أبو قردة) وهو الجناح الأكثر نفوذاً في الساحة الدارفورية، ونجح حتى الآن في دخول حلبة الانتخابات من خلال (48) دائرة قومية ونحو مائة دائرة في المجلس التشريعي، وكذلك حضرت الموازنات القبلية في دائرة الجنرال “إبراهيم سليمان” الذي ينحدر من قبيلة (البرتي) في شرق دارفور التي تمثل مناطق (اللعيت جار النبي)، (الكومة)، (الصياح) و(الطويشة) مراكز ثقلها.. وفي دائرة الفاشر الثانية يخوض الدكتور “أحمد بابكر نهار” معركة سهلة نسبياً، حيث يعد فوزه بالمقعد مسألة وقت لا أكثر وذلك لثلاثة أسباب، أولها أن د. “أحمد بابكر” شخصية اجتماعية تتكئ على إرث تليد، فقد كان والده من أعيان دارفور ورموز حزب الأمة القومي.. وسار الابن على طريق الوالد.. وتسنده قبيلته (الزغاوة) التي تمتاز بالترابط الشديد والتضامن.. وتقدر القيادات والرموز في مقامات د. “أحمد بابكر”.. وثانيها أن المؤتمر الوطني قد أخلى الدائرة لدكتور “نهار”، وأصدر توجيهات لقواعده للتصويت له في تلك الدائرة مثلما أخلى دائرة (أم برو الطينة) التي زارها “عثمان كبر” والي شمال دارفور لأول مرة الأسبوع الماضي بعد عزلة امتدت لاثني عشر عاماً بسبب التمرد.. وفي هذه الدائرة التي يصوت فيها المؤتمر الوطني لصالح حركة العدل والمساواة جناح “بخيت دبجو”، تتصارع شخصيات كبيرة للظفر بالمقعد النيابي مثل النائب البرلماني السابق “محمد أحمد مناوي”، وهو من المقربين جداً للمتمرد “أركو مناوي” وكان واحداً من قيادات حركته ترشح في الانتخابات الماضية مستقلاً وفاز على المؤتمر الوطني، ويعود الآن لتجريب حظه أيضاً لمنافسة “بخيت دبجو”.. إلا أن دائرة الجنرال “إبراهيم سليمان” لها رمزيتها وأهميتها، فالرجل يعدّ خصماً للشيخ “موسى هلال”، حيث زج به في غياهب السجون، وفي حقبته تم نفيه إلى سجن بورتسودان.. وللجنرال “إبراهيم سليمان” آراء ومواقف لا تجد الرضا والقبول من الدوائر المتنفذة في الحكم بالخرطوم، حيث يرفض ضابط القوات المسلحة الذي تدرج من رتبة الملازم حتى الفريق أول الرهان على البندقية لحل قضية دارفور، وظل ينافح في كل المنابر واللقاءات عن قناعاته الشخصية بأن الحرب لن تؤدي إلا لمزيد من العنف والتشظي وتمزيق أحشاء الوطن وإضعاف قدراته، ولا يبالي الفريق “إبراهيم سليمان” إن تم وصفه بـ(المتخاذل) أو الموالي للتمرد.. ولـ”سليمان” قناعات راسخة بالتفاوض والحل السلمي، ولكن هذه القناعات تجعله في كثير من الأحيان صامتاً مراقباً للبرلمان.. لا يتحدث إلا في قضايا محدودة.. وبينه ورئيس البرلمان السابق مولانا “أحمد إبراهيم الطاهر” خلافات وتشاكسات جعلته من النواب الذين لا تسند إليهم مهام داخلية أو خارجية رغم الخبرة الطويلة له في دهاليز الدولة والقوات النظامية.. ويعدّه البعض السلم الذي اتخذه خليفته الحالي في الفاشر “عثمان يوسف كبر” للارتقاء لمنصب الوالي.. لكن “كبر” في سنوات حكمه الطويلة ظل وفياً للجنرال “إبراهيم سليمان” ولولا دعمه السياسي له وخوف المركز من غضبة “عثمان كبر” لما سمح له بخوض الانتخابات الماضية والحالية.. ولكن رغم ذلك فإن الرجل موقفه الآن صعب جداً للمنافسة الشديدة مع “عثمان واشي” القيادي في حركة التحرير والعدالة التي أثبتت أنها تملك رصيداً حقيقياً من الجماهير، رغم إخفاقات السلطة الإقليمية التي أصبحت مكوناتها مدرستين، الأولى بقيادة “بحر أبو قردة” والثانية بقيادة “السيسي”.. وتبقى معركة فوز أو سقوط الجنرال “إبراهيم سليمان” في دائرة الفاشر من المعارك الانتخابية التي لا يلتفت لها الإعلام ولا الصحافة رغم حرارة المعركة وسخونة المناخ الانتخابي في الولايات.
{ الصادق.. القريب البعيد عن الوطني
منذ أن غادر السودان غاضباً على اعتقاله بعد التصريحات التي أطلقها بحق قوات الدعم السريع، مضى الإمام السيد “الصادق” في إبرام التحالفات السياسية التي نسجها مع آخرين لتوحيد مواقف القوى التي تحمل السلاح والقوى التي تحمل (أفواهها) وتناضل بالكلمات الناعمة والخشنة.. ووقع الإمام “الصادق” على اتفاقيات وتفاهمات مع الآخرين، فهو مولع بالاتفاقيات والتفاهمات.
وبات الإمام محل ثقة بعض القوى التي تحمل السلاح ومحل تشكك وريبة من قوى أخرى بقراءة تاريخ “المهدي” السياسي وقدرته الفائقة على ترويض المواقف لصالحه هو!! ونجح الإمام “الصادق” في هجرته الحالية في توحيد تيارات حزبه لصالحه هو بعد أن كاد الحزب أن ينقسم ويتصدع مرة أخرى، لولا أن منافسه السيد “مبارك الفاضل” ظل حريصاً على وحدة حزب الأمة ووراثته موحداً بعد تجربة الانقسام الفاشلة.. لكن هل لـ”الصادق المهدي” الآن خيوط اتصال بالحكومة والمؤتمر الوطني؟؟ أم تقطعت الخيوط وتباعدت المسافات وأصبح التلاقي عسيراً والعودة مستحيلة؟؟ بعض الأخبار المتواترة من هنا وهناك تشير إلى أن الإمام “الصادق المهدي” قريب من المؤتمر الوطني وبعيد عنه في ذات الوقت، قريب منه سياسياً وبعيد عنه (مكانياً)!! بعض خيوط التواصل (الواهنة) بيد ابنه الأمير “عبد الرحمن الصادق” الذي يشقى كثيراً بمواقف حزبه وقناعاته هو الشخصية.. ويتحمل فوق طاقته من الأذى والضرر بسبب بقائه في القصر مساعداً للرئيس برضا والده وغضب جيوب المتطرفين في حزبه.. لكن الإمام السيد “الصادق” يثق في ابنه “عبد الرحمن” أكثر من كثير من قيادات حزب الأمة، وحينما يخرج الأمير “عبد الرحمن” للقاء والده في القاهرة أو لندن لن يخرج قبل لقاء الرئيس “البشير” والتفاهم على الخطوة التي يقبل عليها مساعد الرئيس، وإلى جوار الإمام الصادق “المهدي” ابنه “بشرى” الضابط حتى الآن في جهاز الأمن الوطني.. وتقديرات المواقف وخيوط التواصل والتفاهم جعلت وجود “بشرى” الضابط في جهاز الأمن والعميد “عبد الرحمن الصادق” مساعد الرئيس في القصر إلى جانب والدهما في منفاه الاختياري مسألة متفقاً عليها.. وموافقاً عليها.. فهل “الصادق المهدي” اليوم أقرب للجبهة الثورية؟؟ أم أقرب للمؤتمر الوطني؟؟ وهل عودة الإمام تحتاج إلى عفو رئاسي مثل الآخرين؟ أم تفاهم حول قضايا بعينها؟؟

المجهر السياسي