جعفر عباس

آباء بالانتساب ومن ثم الخراب


نيوز راوند، برنامج تلفزيوني تقدمه هيئة بي بي سي منذ عام 1972 وغايته الأساسية تعليم وتنوير الأطفال، واستمراره على مدى 43 سنة دليل نجاحه، ففي كل مؤسسة إعلامية غربية يتم رصد شعبية منتجاتها من صحف وأفلام وبرامج، وعند هبوط شعبية أي برنامج تلفزيوني – مثلا – يتم سحبه نهائيا، أو إعادة طرحه في قالب جديد مشوق، وليس كما هو الحال عندنا نترك برنامجا يسبب التهاب البروستات للمشاهدين يستمر لسنوات، لأن من يقدمه يحوز رضا من بيدهم الأمر، أو نقتل برنامجا ناجحا، لأنه يتجاوز الخطوط الحمراء (وما من مسارٍ عندنا في الحياة اليومية العامة إلا وبه خطوط حمراء وعلامات ممنوع الدخول وممنوع التوقف).
نيوز راوند قام مؤخرا باستطلاع بين أطفال بريطانيا كانت نتائجه محزنة، فنحو ثلثهم قالوا إنهم لا يعتبرون آباءهم «جزءا» من العائلة، يعني ينظرون اليهم كغرباء أو ضيوف عابرين وربما ثقلاء، وقال 76% منهم انهم يثقون بأمهاتهم أكثر من ثقتهم بآبائهم، خاصة في ما يتعلق بـ «الأسرار»، ونحو 62% منهم قالوا إنهم يتمنون قضاء أوقات أطول مع آبائهم، ولكن الآباء يعودون الى البيوت منهكين و«خلقهم ضايق» ويلزمون غرفهم طلبا للراحة او النوم.
لحسن او سوء حظنا في العالم العربي، فإننا لا نعرف استطلاعات الرأي، ولا نحترم الإحصاءات، لأننا نخاف من الأرقام، لأنها، مثل «الصورة»، لا تكذب، ولهذا فهي ترعب، ولو أُجري استطلاع مماثل في بلداننا لفجعتنا نتائجه، فالأب عندنا صار تدريجيا يسجل غيابا شبه تام عن حياة عياله، بل يتعرض الشخص المنضبط عائليا للمعايرة بأنه «يخاف من المدام»، وليثبت انه لا يخاف منها يتمادى في السهر خارج البيت والتنقل من مكان الى آخر حتى ساعات متأخرة من الليل او بواكير الفجر، فالبيت فقط محطة للراحة ما بين العمل وبرنامج المساء والسهرة. ومن ثم يجنح العيال وتتمرد الزوجة و«ينخرب البيت».
هل العيب والنقيصة ان تحسب حساب زوجتك، ام حساب ألسنة أصدقائك؟ أليس من «يخاف» من زوجته أكثر ثقة بأنها تأبه له وتريده بجوارها أكثر من الـ «عنتر» الذي يتباهى بأنه لا يقيم وزنا لنقنقة وشنشنة زوجته؟ ثم إنك عندما تخص أصدقاءك بمعظم وقت فراغك لتثبت أنك «سي السيد» فإنك تلقائيا تبتعد عن عيالك وتصبح في نظرهم مثل الآباء البريطانيين الذين قال عيالهم انهم لا يعتبرونهم جزءا من العائلة.
أمر آخر في ذلك الاستطلاع حز في نفسي كثيرا، وهو ان ثلاثة أرباع الأطفال الذين استطلعت آراؤهم قالوا إنهم يتضايقون لأن آباءهم يمنعونهم من اللعب في الشارع، وشخصيا لم أسمح قط لأحد من عيالي الأربعة باللعب في الشارع في أي مرحلة عمرية، فثلاثة منهم ولدوا وأنا أعمل في منطقة الخليج، وأكبرهم أتى معي الى الخليج وعمره أقل من سنة! ما معنى كلامي هذا؟ معناه أنني منعتهم من اللعب في الشارع لأنني لا أعرف الجيران ولا أعرف طباع عيالهم: على شمالي هندي وبعده استرالي وعلى اليمين فلبيني. يليه سوري بيته يلاصق بيت عائلة كورية، وعندما يكون الجيران غرباء في نظر بعضهم البعض لا يكون هناك مكان لحقوق الجوار. حتى «أهل البلد»، في معظم أحياء هذا البلد الخليجي او ذاك، يعانون «الغربة»، لأن جيران الطفولة طفشوا الى مناطق بعيدة، وبالمقابل فعندما كنا صغارا، في الخليج وفي غيره من المناطق، كان أهلنا يطردوننا من البيوت كي نلعب في الشوارع، فقد كانوا واثقين من أن الكبار من حولنا – حتى من خارج الحي – سيوقفوننا عند حدودنا إذا تجاوزنا حسن الأدب، ولم تكن كلمة «تحرش» قد اخترعت بعد.

jafabbas19@gmail.com