محمد محمد خير

بروف غندور وسائقي


أنا لا أعرف قيادة السيارة بيد أني أمتلك عربة في السودان وأخرى في كندا، لا أعرف تحديدًا ماهي وظيفة (الكلتش) ولم يسبق لي أن (كلتشته)ويرجع ذلك لحذر من السبعينات فحين هممت بتعلم القيادة في ذلك الأوان تتلمذت على عمي إبراهيم (رئيس السواقين) وقتئذٍ بالإذاعة وكان قد أهّل عوض إبراهيم عوض وأتم نعمته على الراحل عباس ساتي، وفي أول يوم من تتلمذي، علّمني كيف أدير مفتاح العربة ثم الكلتش ثم البنزين ومن ثم التحكم في (الدركسون) وحين انطلقت جزلاً بهذا الإنجاز قابلتنا حفرة في الطريق، فصاح عمي إبراهيم بي (الحفرة) فأدرت يدي تلقائيًا على زر البوري فصاح بي (في حفرة بضربو ليها بوري)؟! منذ ذلك الأوان قررت ألا أقود عربة، ورغم سهولة قيادة العربات في كندا إلا أنني كنت وفياً لقراري فتكفل أبنائي بمشاويري المعلنة والمواصلات العامة بمجاهيلي التي تقع في حيز (ليس للنشر).
إن أبلغ بيت شعر قرأته في (السُترة) قول أبي العتاهية:-
لطف الله علينا
إن الخطايا لا تفوح
بدافع مهمازه الغريزي العفوي الشديد الاحتفاء بالآخرين، دعانا البروفسير إبراهيم غندور لمائدة عشاء بمنزله لإطلاعنا على موضوعات (ليست للنشر) ولسماع آرائنا حولها، هذا أعلى درجات الحوار المخصّب تشاورًا، شاركه البعض في بعض الآراء، واختلف معه آخرون، وتوّسع الكرونكي في فكرة الربح والخسارة وأضاء بخبرة السياسي ونباهة الصحفي فكان أكثر الحاضرين لفتاً وجرحاً في الوعي وهكذا تمدد الحوار وتصاعدت الإضافات مرة من الهندي ومرة من ضياء الدين، أما أنا فنبهت إلى أن العلاقة مع أمريكا مرتبطة في شقها القانوني بالكونغرس الذي مازال جهد الإنقاذ فيه ضامرًا.
دعانا الرجل لمائدة العشاء فتراخيت لأنني مثلما لا أقود السيارة لا أتعشى أيضاً وتلك (حفرة) أخرى فقد أفدت من قراءاتي عن مرض السرطان أن أغلب المصابين بسرطان الأمعاء والقولون هم من يحرصون على تناول وجبة العشاء بما لا يترك فسحة للأمعاء للاستجمام وهذا يسبب ما يطلق عليه الفرنجة الـ (irritation) وهو أحد عوامل السرطانات.
كان البروف يخدم أهل الرأي بنفسه في انتخاب اللحم الطري والنواشف، ولأنني لا أتعشى تمثل قول المغني (أهدي ليك تفاحة بس أو برتكانة). يخيل لي أحياناً أن كل الجوانب الناضرة فينا والمضاءة داخلنا تعود للحقيبة خارج منزل البروف كان سائقي عبد الرؤوف يجلس داخل العربة في انتظاري حتى أعود، ولأنني أحبه ولا أميز بينه وبين أبنائي، اقنعته بخطورة العشاء فأصبح مثلي لا يتعشى، حين فرغ المدعوون من الشاي أصر غندور أن (يقدمنا) خارج منزله (بالجلابية والسفنجة) فوقعت عينه على سائقي عبد الرؤوف فسأله هل تعشيت؟ فأجاب السائق بالنفي، لحظتها صار عشاء سائقي شأناً تنظيمياً للمؤتمر الوطني فقد اصطفت أمانة الإعلام اصطفافاً ذا إضاءة بهروع قبيس بصحبة ابن البروف لإحضار العشاء لسائقي الذي أصبح لايتعشى، فامتلأ المقعد الخلفي بالصحون وأكياس الفواكه.
ونحن في طريقنا للمنزل تحول سائقي من اتحادي لمؤتمر وطني، وأصبح يحدثني عن منجزات الحزب الحاكم وكيف تحولت مدينته الأبيض لمدينة أشبه بالمدن الكبرى، ثم انعطف لشارع النيل والستين والكهرباء ولم أسمع منه مثل هذا الحديث من قبل!!
حين وصلنا منزلي و(قرش العربية) أخرج الصحون وبدأ يأكل، فقلت له (بقيت تتعشى)؟ فأجابني وفي فمه كتلة لحم (يا أستاذ عشا غندور دا مابجيب سرطان)! فزدته وتصريحاته تشفى السرطان بروف غندور ظاهرة في السياسة السودانية تتفجر من ينابيع كثيرة ما أحوجنا إليها في ترسيخ لونية السماحة.