داليا الياس

سيدة النساء


لا أذكر قطعاً كيف خرجت إلى الدنيا.. وما هي الظروف والملامح التي شهدت تلك الساعة.. ولا أذكر الكثير عن طفولتي المبكرة ولا كلماتي الأولى وخطواتي الأولى.. ولا كيف كنت ألهو أو أبكي أو آكل أو أنام؟.. بل إنني لا أذكر حتى معظم التفاصيل التي عبرت حياتي بمختلف مراحلها!! لكن (أمي) تذكر.!!
فقد كانت ولا تزال دائماً ذاكرتي القوية.. تحدثني عن أشيائي بحب، فأنصت بلهفة.. تسرد حكاياتي بتشويق عظيم فأتأملها وأضحك.. ربما أبكي حين تحدثني عن أقاصيص صداقاتي القديمة وتتلو على مسامعي أسماءً عديدة تساقطت مع الأيام ونسيتها أو تناسيتها لدواعي الألم والخذلان، لكنها لم تنس!!.. كيف لا وهي التي تهيم حباً بأحبائي وتستشيط غضباً من أولئك الذين أوغرت صدورهم تجاهي دون ذنب.!؟
هي من ينصرني ظالمةً أو مظلومة.. تفرح لسعادتي وتجن لأحزاني وأوجاعي.. تنصب نفسها حارسي الأمين وحصني الحصين.. مهندس أيامي ومدير أعمالي.. مستشاري الأول ومربية أبنائي.. وعلى مر السنوات.. والأفراح والأتراح والنكبات والنجاح.. كانت هي الأصدق حبا.. والأجزل عطاءً.. والأكثر جلدا.. والأطول صبرا.. والأطيب قلبا.. والأشهى طعاما..
كانت هي المن والسلوى.. والدعاء والنجوى.. والملاذ والمأوى..
كانت ولا تزال.. واحتي وراحتي.. نوارتي ومنارتي.. طريق جنتي..
معلمتي ومستشارتي..
أغلى ممتلكاتي وأبلغ كلماتي..
سيدة السماح والصبر والحنان.. أمي.
وكل عام وهي كما هي.. تاج رأسي وفخاري وركيزة أيامي.
(أمي).. سيدة الصمود والطيبة.. الشامخة في وجه الأزمات والأسقام والأهوال.. المصلوبة على حوائط الأسى.. تتوسد وسائد الحزن والسهر، ثم تنهض باكراً لتصنع لنا (شاي) السعادة مصحوباً بالدعوات الطيبات الصادقات.
(أمي).. التي يؤرقها وجعي وشجني، فتظل ساهرة حتى الصباح بينما أنام.. تمعن في التخطيط لمستقبلي، بينما تتقاذفني أهوائي ولا مبالاتي.. تقرأ كلماتي وتنتقدني.. وفي نجاحاتي تهنئني.. وتسمع نحيبي فينفطر قلبها وتعلن حالة الطوارئ القصوى.!!
تجدونني إذاً مدينةً لهذه المرأة بالعديد من الاعتذارات.. فدعوني أعتذر لها علناً عن طيشي وجنوني طوال عمري.. وعلى تمردي وعنادي وقراراتي الخاطئة.. وعلى شقاوتي واستهتاري حيناً وعلى كوني لم أكن أبداً كما تمنت ذات يوم.
أعتذر عن ليالي السهد ونهارات الكدح.. عن انكفاءتها المزمنة على (ماكينة الخياطة) بينما أستمتع بحكايات إحسان عبد القدوس والسباعي ورجل المستحيل وأهيم بكاظم الساهر وفيروز!!.. أعتذر عن سوء تقديري وجهلي بحجم معاناتها وتعبها اللذين لم أدركهما، إلا بعد أن مضيت قدماً في طريق الأمومة وهي أيضاً بجانبي تشد من أزري وتوجهني وتحمل عني في كثير من الأحيان ذات الأعباء مضاعفةً.
أعتذر عن أخطاء فادحة أو صغيرة ارتكبتها عن قصد أو دون قصد ودفعت هي ثمنها مضاعفاً ولا تزال.
وأسأل الله بكل صدق أن يزيح عنها الهم والغم والعجز والكسل.. ويشفي أسقامها المزمنة التي علمتنا كيف يكون الجلد والتصالح مع الذات والواقع.. فكثيراً ما يجزع قلبي مما تعانيه أمي من مرض.. فأجدها كالعهد بها تحارب المرض وتنتصر عليه وتقف بقوة في وجهه لتصرف كل شؤون حياتها وحياتنا وهي تدعو الله بصدق أن (اللهم توفني وأنا واقفة على قدمي!!).. (لا أعمى يقودوني ولا أتكسر يشيلوني)!! ربما لأنها تخشى علينا مما تظنه عبئا وتعبا.!!
فيا (أمي).. كل عام وأنت كما أنت.. بذات الطيبة واللطف والبشاشة وحسن المعشر والمرونة والذكاء والثقافة والمهارة في كل شيء..
كل عام وأنت إلى جانبي ومن ورائي تطوفين كما الفراش على مدارات الأزهار.. يا فراشة عمرنا الماضي والآتي.. يا سيدة النساء.. ودمتي.
تلويح:
يا دنيا اقسي وخوّفي.. زيدي الحزن لي ستفي.. دوري بظنونك ولفلفي.. فرح العمر هاك اخطفي.. والدمع أوعا تجففي.. خلي الشجون بي تحتفي.. لا ترحمي ولا تنصفي.. ومن الألم ما تكتفي.. ولو شفتي فرحي اتصرفي.. وألحان عذابك اعزفي.. بس حقو أول تعرفي.. (أنا أمي في).!