عبد الجليل سليمان

العنصرية والدكتاتورية حينما يهب هبوبهما


الراصد للحراك المدني السياسي في السودان منذ رحيل المُستعمر وأيلولة مؤسسات الدولة وفضاءاتها المدنية إلى السياسيين الوطنيين وزعماء الطوائف والحراك الإسلامي، لن يعييه اكتشاف عجزها البنيوي في التحول إلى مؤسسات ديمقراطية حرة ونزيهة وشفافة تعتمد مبادئ تداول السلطة والكفاءة معيارين لسياق اشتغالها في هذا الفضاء بالغ التعقيد والتشابك.

دونما استثاءْ، فإن كل الأحزاب السياسية السودانية حزمة واحدة، ورغم أنها بذلت ولا تزال حناجرها وألسنتها رخيصة مدعية دون كلل وملل وخشية ووجل اعتناقها لمبادئ الديمقراطية الليبرالية وتداول السلطة، فإننا نجدها تكرس يوماً بعد يوم لمعكوس ما تدعيه وتقلل من شأن الآخرين باعتبارهم مناوئين لهذه المبادئ المدنية الراقية ومتخلفين عنها.

لكن واقع الأمر يشي بغير ذلك، وإلا فما الذي يجعل الطاعنين في السن والفكر من ديناصوراتها متشبثين بعروشهم، وقد بلغوا من العمر أرذله ومن الخطاب السياسي أعجزه. أنظروا إليهم وهم ذاهبون إلى (قرن كامل) من الحياة المتمرغة في السياسة (الترابي، الميرغني، الصادق المهدي، حسنين، أبو سبيبة، الخطيب) وغيرهم، وحتى قادة المعارضة المسلحة (عقار، عرمان، الحلو، مني، جبريل، وعبد الواحد) وخلافهم، كل هؤلاء لن يفارقوا عروشهم الناعمة أو المفخخة إلا إذا رفع الله آجالهم بموت طبيعي، أو عنيف.

لا أحد يتنازل هنا في السودان عن سلطة، أياً كانت، حتى ولو رمزية، لا أحد فرداً أو مؤسسة يتملك ما يكفي من الإرادة والشجاعة ليقول لمن هم خلفه (ها هي فتداولوها).

ولذلك تبدو الأحزاب السياسية، التي هي – بطيبعة الحال – بيوتات سياسية، مبعثرة وهشة ومتشظية ومنقسمة إلى مراكز قوى ولوبيات تكيد لبعضها كيداً، وقد سمعنا قريباً عن (دواعش الاتحادي)، وقبلها عن حركة الإصلاح، وعن الأمة والأمة والأمة، وعن حركة التحرير والعدلة ذات الجناحين الكبيرين والأجنحة الفرعية، وعَن عَن وعَن عَن ثُمَّ عَن عَن وعَن وَعَن (بقية الأحزاب) أُسَائِلُ كُلَّ مَن سَارَ وارتَحَلْ، ومن بقى ومكث، فأحصل على إجابة واحدة، وهي أنها ديكتاتورية إلى النخاع، وبعضهم يوغل أكثر فيصفها بالقبلية والعنصرية والجهوية، وهذا التوصيف ليس هذياناً فله ما يدعمه ويبرره – وإن شئتم عدنا إليه لاحقاً.

تلك واحدة.. أما الثانية، فهي الأنكى والأشد مضاضة، فالناظر إلى المعارضة والممعن في تضاعيف أفعالها وردود أفعالها يصاب بالعجب فرط التناقض الفاضح والخطاب العنصري الفادح الذي يتلبسها في كثير من الأحيان، وإن لم يكن بطريقة مباشرة (بمعنى أنه لا يصدر عن جهة رسمية)، بل يجترحه أفراد ناشطون بين صفوفها في الأسافير، ثم لا يجدون إدانة من منظماتهم التي تلتزم إزاء (عنصريتهم) صمت القبور.

وفي ذلك، وبالعودة إلى حادثتي الوزيرين الإسلاميين، إبراهيم محمود، وياسر يوسف، بالتوالي، نجد أنهما تعرضا لنفي وعنصرية مبينتين وواضحتين، ظلت المعارضة تسم بهما الحكومة كلما (هب هبوبها)، ثم سرعان ما تقع فيها هي بطريقة أكثر فداحة ومقتاً، دون أن يرف لها جفن أو ترتعد لها فرائص.