د.عبد الوهاب الأفندي

عن الدعاة والقضاة والمجاهدين في «الجاهلية» المعاصرة


في نهايات القرن التاسع عشر، وبعد أن استتب الأمر للاستعمار الفرنسي في الجزائر ولبريطانيا في الهند بعد لأي، واجهت السلطات الاستعمارية مشكلة جديدة باتساع الهجرات من البلدان المستعمرة. ففي الجزائر، شهدت منطقة وهران تحديداً هجرات واسعة إلى مناطق العالم الإسلامي الأخرى إلى أراضي الدولة العثمانية، بما في ذلك بلاد الشام. أما في الهند، فقد كانت المشكلة أخطر، لأنها شهدت هجرة منظمة إلى أفغانستان ارتبطت بدعوات جهادية.
عندها بادرت السلطات الاستعمارية في البلدين إلى استراتيجية متشابهة تمثلت بتدبيج استفتاءات إلى علماء المسلمين في الأزهر والحرمين، تتساءل على لسان المسلمين عن مشروعية البقاء في بلاد غلب عليها الكفار، ولكنهم سمحوا للمسلمين بإقامة شعائرهم بحرية. وأضاف المستفتي بأن السلطات ندبت الأئمة والمسؤولين لعمارة المساجد، ورصدت لهم رواتب، كما عينت قضاة يحكمون بين أهل البلاد بالشرع. وأشفع السؤال بحديث عن صعوبة الهجرة ومشقتها، وبسؤال فرعي عن حكم الجهاد ضد سلطات الاحتلال مع عدم القدرة على ذلك. وبالطبع جاءت الإجابات بمشروعية البقاء وعدم وجوب الجهاد. وقد روجت السلطات الاستعمارية لهذه الفتاوى على نطاق واسع، وأصبحت فيما بعد الأساس للتعامل مع الاستعمار الذي عم بلاؤه لاحقاً كل دار الإسلام ما عدا استثناءات قليلة أكدت القاعدة.
في نفس الوقت، نشأت بوادر حركة أخرى كان من رموزها السيد جمال الدين الأفغاني وآخرون، رأت ضرورة المواجهة الشاملة مع الاستعمار على أساس سياسي-حضاري. دعت هذه الفئة إلى وحدة المسلمين، وإصلاح الفكر والتعليم، واستنفار الجماهير وزيادة وعيها، وترجمت هذه الدعوات في حركات سياسية سعت لمواجهة الاستعمار سياسياً وفكرياً وفي بعض الأحيان عسكرياً. وتشترك هذه الحركات بأن قياداتها تخرجت من المؤسسات التعليمية التي نشأت في كنف الاستعمار، وساهمت بقدر ما في العمل داخل مؤسسات الدولة الاستعمارية.
لم تختلف الحركات الإسلامية كثيراً عن الآخرين في هذا السياق، حيث نشأت في الهند ومصر وهما ما يزالان تحت الاستعمار، فتأثرت قياداتها بالوضع الاستعماري وتفاعلت معه. إلا أنها ركزت أكثر على الجانب المتعلق بإحياء وإصلاح الفكر الإسلامي، وعدته غاية في حد ذاته، وليس فقط وسيلة لاستعادة الاستقلال والمبادرة الحضارية. ولكن هذا الهدف واجه إشكالات عدة، بداية من كون الحركة الإصلاحية كانت ثورة على الإسلام القائم حينها، أكثر منها دعوة إلى استعادة سلطات المؤسسات الإسلامية القائمة. على سبيل المثال سعى الشيخ محمد عبده لإعادة صياغة الأزهر على أسس جديدة، في وجه مقاومة شرسة من الأزهر الذي لم ينجح حتى اليوم في أن يتحول إلى مؤسسة تعليمية ذات شأن، فضلاً عن أن يتولى القيادة الدينية والأخلاقية في مصر وما حولها.
أهم من ذلك، واجهت الحركات إشكالية ماهية النموذج الإسلامي الذي تريد استعادته من فكي الواقع العلماني الذي خلفه الاستعمار. فاستعادة الوضع السابق للاستعمار لم تكن مطروحة.
بل إن كل نماذج التاريخ الإسلامي بعد الخلافة الراشدة لم تكن مقبولة. وحتى لو كانت مقبولة فإن إعادة انتاجها في واقع المجتمعات الحديثة المعقد لم يعد وارداً. ولهذا كان على هذه الحركات أن تعيد إنتاج «إسلامها» الخاص، ثم تبتكر الوسائل لتعميمه وتطبيقه. وقد ترجم هذا عند الرواد، خاصة في حركة الإخوان بقيادة حسن البنا، في محاولات لتمثل التدين الشخصي ونشره، بداية بوعظ رواد المقاهي، ثم بدأ بتعليم أول مجموعة استجابت له الوضوء والصلاة. وكان التركيز على حض أعضاء حركة الإخوان على تكثيف العبادات، بدءاً بالمداومة على صلاة الجماعة، والإكثار من النوافل وقراءة القرآن، وأداء بقية الفرائض، والتخلق بأخلاق الإسلام، والتفقه في الدين. أضيفت فيما بعض أوجه نشاط رياضي وتوجيه نحو النشاط الاقتصادي والإعلامي.
لم تكن هناك خطة وراء تكثيف تدين العضوية وزيادة عددها سوى العبارة المبهمة: الفرد المسلم، البيت المسلم، المجتمع المسلم، أو نظيرها: «أقيموا الدين في أنفسكم يقم في أوطانكم». ويعكس هذا قناعة «صوفية» بأن التعمق في التدين الشخصي وتوسيع دائرته سيؤدي بصورة آلية إلى حسم مشكلة العلمنة التي تجذرت في المجتمع. ويكشف هذا عن غياب فهم لأزمة الإسلام الداخلية التي تكشفت في سقوط نموذج الخلافة الراشدة مبكراً، ونشأة أنظمة سياسية واجتماعية منكرة، وأيضاً للأزمة التي نشأت من العلمنة والحداثة.
نتج عن هذا أن التيارات طفقت تصطدم بالسياسية والتسييس دون أن تتحسب لذلك، كما حدث حين واجهت المجموعات الطلابية الصغيرة التي خلقت نواة الحركات الإسلامية في المدارس والجامعات العربية معارضة شرسة من الوسط الطلابي المعلمن الذي كانت تهيمن عليه قوى اليسار. وقع هذا في بلدان مثل السودان والمغرب وتونس، وصلت في كثير من الأحيان إلى العدوان الجسدي، وذلك حول أمور لم يتوقع هؤلاء أن تكون مثار جدل، مثل إنشاء غرف للصلاة في هذه المعاهد. وقد ولد هذا بدوره استجابات سياسية مرتجلة شكلت خيارات الحركات في مستقبل أيامها.
ظل الارتجال السياسي هو سمة الحركات الإسلامية، رغم بروز محاولات المودودي لتطوير نظريات «ثورة إسلامية»، ومجاراة سيد قطب له، فإن هذا لم يغير من الواقع شيئاً. فنظرية المودودي-قطب في التحول من المجتمع «الجاهلي» إلى عالمية الإسلام لا تقدم أي إجابة عن كيفية إنشاء المجتمع الإسلامي من نقطة الصفر، سوى إشارات غائمة إلى السيرة النبوية. وحين تتحدث عن الجهاد فإنها تفترض قيام المجتمع الإسلامي الذي يضطلع به، فمن غير المعقول أن يتولى «المجتمع الجاهلي» مسؤولية الجهاد. (ولا بد من التنبيه هنا بأن قطب لم يكفر المسلمين، وإنما زعم بأن الدار أصبحت دار كفر، رغم وجود المسلمين فيها). وهذا يشير أيضاً إلى نظرة «صوفية» لآلية إنشاء المجتمع المسلم الذي ينتظر، تيمناً بالسيرة النبوية، أن تنجح «الطليعة» الإسلامية في استمالة غالبية أفراد المجتمع إلى منهجها، وبالتالي ينشأ المجتمع الإسلامي آلياً. وينسى هذا الطرح أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يوفق في استمالة غالبية أهل مكة وهدايتهم إلى دين الحق، كما لم يستطع كف أذاهم عن أتباعه إلا بالهجرة.
وهذا يذكرنا بالترجمة الكاريكاتورية لمقولات قطب من قبل ما سمي بـ «جماعات التكفير والهجرة»، وهي جماعات اختارت «الهجرة» الرمزية من المجتمع إلى مواقع منعزلة، ثم خيل لبعضها أن كهوفها ومنعزلاتها الجبلية أصبحت بمقام يثرب، وأن القلة التي تمترست بها هي «الأمة الإسلامية»، أو «جماعة المسلمين» التي يجوز لها ما كان يجوز لدولة المدينة من إقامة الشرع وإعلان الجهاد. ويقيناً أن هذا الهراء لم يكن ما عناه قطب ولا المودودي، على قصور رؤيتهما.
وكما هو الحال مع داعش اليوم، فإن القضية ليست خطأ أفراد أو ضلالهم، وإنما هي خطأ منهج. فهناك ثغرات كبرى في نظرية الانتقال من مجتمع كامل العلمنة إلى مجتمع يوصف بأنه «إسلامي»، تبدأ من عدم وضوح مفهوم إسلامية المجتمع، فضلاً عن إشكاليات تطبيق هذا النموذج المجهول على واقع معقد لا نظير له في التاريخ الإسلامي. وهذا ما سيفتح الباب أمام كل التأويلات والاجتهادات. ولا يكفي أن يقال نحن دعاة لا قضاة إذا لم يكن الداعي على بينة مما يدعو إليه أصلاً. فلا بد من التوصل إلى إجابات جماعية توافقية على تساؤلات حول ماهية الدولة الإسلامية (إذا صح المفهوم أصلاً)، وماهية «المجتمع المسلم»، بل ما هو البيت المسلم والفرد المسلم. وبدون هذا تصبح «الدعوة» تنادياً نحو المجهول، ويصبح «الجهاد» خبطاً في ظلمات بعضها فوق بعض.
ولنا عودة إلى هذه المسائل إن شاء الله.