احلام مستغانمي

أخذ معه كل ذلك الضوء ( 02 )


الآن نكتشف ذلك ، وقد توقفت تلك الانفجارات التي كان يُحدثها بين الحين والآخر، فيهزّنا بها، بلداً بعد آخر، وفرداً فرداً. لــــذا، بعد رحيله سَــادَ العالم صمت شعري رهيب، لا لأن شاعراً كبيراً مـــات، ولكن ، لأن وهمنا بالشعر انطفأ، ولم يعد في إمكان أحد بعد نزار أن يجعل مِن تفاصيل حياتنا العادية حالة شعرية.
برحيلـــه، استبشر بعض الشعراء خيراً. وتوقعوا أنهم بموته سيكبرون، وبغيابه سيتقدَّمون صفّـاً. أخطأوا في حساباتهم، الشعر فضّاح لِمَن دونه. قد يزداد شاعر حضوراً بغيابه ويصغر آخر على الرغم من ضوضائه. لـــــذا مَن كانوا في حياته كِبَاراً، مازالوا كذلك، وأولئك الشعراء الذين كانوا أقزاماً سيبقون كذلك، ولا جدوى من وقوفهم في طوابير الشعر. ا
لشاعر كائن لا ينتظر. الشعر هو الذي ينتظره عصوراً.
ما وقف نزار يوماً في الصف. لقد كان منذ نصف قرن، وحتى بعد موته، صفاً في حد ذاته، يمتد مِن أول إلى آخر الخريطة العربية، و كان عَـلَـمَــاً شعرياً تصطف خلفه أُمّــة بأكملها. كان الصوت الشرعي لعصرنا، وابن القبيلة الذي غَــدَا بانقلابه عليها ملكها.
قـــال «إنّ المبدعين خُلِقوا ليزرعوا القنابل تحت هذا القطار العثماني العجوز، الذي ينقلنا من محطة الجاهلية الأُولى ، إلى محطة الجاهلية الثانية». .
وأثناء زرعه تلك الألغام، نسف نزار خلال نصف قرن، كل الشعراء الذين ركبوا قطار الشعر، من دون تَذاكِر، ومن دون أن يدفعوا مُتوجبات هذا اللقب. عاشوا مُعلّقين بأبواب القطارات والمهرجانات الضوضائية.
لقد قضى عمره في ركلهم ودفشهم ومحاولة الإلقاء بهم من نافذة القاطرة، دائم السخرية منهم والاستخفاف ، وما سمعوه ولا صدّقوه.
الآن، وقد غـــادر ، وتركهم يسافرون نحو حتفهم في ذلك القطار المجنون، نعي أنه رحل وهو يحاول إنقاذ آخر قصيدة من أيدي مرتكبي الجرائم الشعرية. رحــل وهو يحاول إنقاذ آخر أنثى قبل وصول التتار. ذهب وهو يحاول إصلاح العطل الأبدي في مولِّدات الفرح العربي. لــــذا مات نزار بصعقة كهربائية، مُعلَّـقـاً إلى قنديل الشعر ، أثناء محاولته إدخال الكهرباء إلى شارع الحزن العربي.
رحـــل آخِــــذاً معه كل ذلك الضــــوء.