حوارات ولقاءات

الأستاذة المخضرمة “نفيسة المليك” تحكي عن مسيرتها الاجتماعية


متنقلة بين الذكريات.. ما بين السياسة والاجتماع
التعليم الخاص اليوم كما الشخص الذي يريد أن (يفتح دكاناً)
زمان كنا نُمنع من السفر.. وأية معلمة تسافر لابد أن تكون معها حارسة
كانت لديّ الرغبة أن أدرس في الـ(يونتي) لكن أخي “إسماعيل” منعني.. قال لي: (ما بتركبي معاي الطرماي)
البنات كن يتزوجن في سن (12) سنة لذا كنا ندرسهن مهارات حياتية حتى يكن مستنيرات وصالحات
زواجي كان تقليدياً وفي سن متأخرة (25) سنة لأننا كنا مشغولين.. (مش زي الزمن دا نقابض)
أنا وصديقاتي من الرائدات كسرنا بعض الطقوس التي دفعت بالشباب للزواج من أجنبيات
أدخلت أولادي مدارس أجنبية لكن أبوهم قال: (لازم يشيلوا شنطة الدمورية ويدرسوا مع الشعب)
لم تخذلها ذاكرتها التي ما زالت كما الفولاذ لم يؤثر فيها طرق السنين ولا ملمات الزمن ورائدة التعليم في السودان الأستاذة المخضرمة “نفيسة المليك” تستدعي أحداث الماضي فتجسد التاريخ كما الحاضر رغم أنه مشوب “أي الحاضر” بكثير من التغييرات التي أبدت امتعاضها منها.
خلال دردشة لم يعرف الملل لها طريقاً حكت لنا “المليك” الكثير والمثير عن الحقب الفائتة بدءاً بالتعليم وليس انتهاءً بتربية أبنائها.. ورغم مسيرتها الضاجة إلا أن ثمة هدوءاً تتسم به حياتها الآن، وهي تعيش في بيتها برفقة زوجها، تحفها ذكريات الماضي وبعض الحاضر من خلال صور فوتوغرافية في غرفة أطلقت عليها (المعمل) تشهد بمسيرة امرأة صلدة رغم رقتها التي لا تخطئها عين، ورغم اعتصارها ألماً أحرق جوفها وهي تحتسب ابنها الطيار “أكرم” الذي أعدمته (الإنقاذ) في بواكيرها شهيداً، وبسببه، وهي (تفضفض) عن ما يعتريها عبر احتفالية سنوية اعتُقلت ثلاث مرات.
إذن فلنتعرف على بنت الأربعة عشرة ربيعاً التي وقفت تدرس طلاباً ربما فاقوها عمراً.. وكيف انتهت مسيرتها التعليمية بنيلها شهادة الماجستير من إنجلترا، ثم تكوينها اتحاد النساء وما صاحبه.. كيف تزوجت، وكيف نجحت وصديقاتها من رائدات الحركة النسائية في كسر بعض القيود المجتمعية.. تربيتها أولادها.. مواقفها السياسية.. أمومتها.. وممن كُرّمت هذا العام.
{ أستاذة “نفيسة”.. هل أنت راضية عن التعليم الآن وأنت واحدة من رائداته؟
_ مهنة التعليم أصبحت طاردة، والشباب (بستعجل) الزمن والحياة، والمعلمون من ذوي الخبرات تقاعدوا، والجيل الجديد مستعجل.
{ بمقارنة بسيطة.. كيف كان التعليم في أيامكم؟
ــ وقتها كانت المدارس محدودة، وبفضل جهود الشعب السوداني التواق للمعرفة والعلم الذي بدأ ومورس منذ عهد السلطنة الزرقاء وفترة المهدية والتركية، وساعتئذ كان التعليم دينياً قبل أن يصبح نظامياً، وقد تبارى السودانيون فيه حد تخصيصهم يوماً للتعليم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية عندما وعد الحلفاء أنهم إذا كسبوا الحرب ستمنح كل المستعمرات تحت نير الاستعمار حق تقرير المصير.
{ بدايات التعليم قد تكون معروفة لكن كيف انخرط الناس في سلكه؟ ومن أين كانت الانطلاقة؟
ـــ نعم.. معروف أن “بابكر بدري” هو أول من وضع لبناته وكان وقتها مفتش تعليم وليس رجل أعمال، بدأه في أسرته وجيرانه في رفاعة حتى تقبله الناس.. وفي أم درمان كانت الانطلاقة من “أبو روف” حيث مدرسة (العتباني)، ومدرسة (عثمان صالح صديق عيسى) وهو من أعيان أم درمان في العباسية، أما الإمام “عبد الرحمن المهدي” فمدرسته كانت بالموردة، ومعروف عن أهل الحي أنهم من المستنيرين ومعظمهم ضباط شاركوا في الحرب العالمية الأولى في الخمسينيات أيام الاستعمار. ولا يفوتني أن أنوه إلى أن هذه المدارس كانت في البيوت قبل أن تُخصص لها مبانٍ.
{ نوع وهيئة التعليم كيف كانت؟ وهل كانت هناك مدارس خاصة كما الآن مع رأيك في الأخيرة الآن؟
ـــ التعليم ومنذ عهد الاستعمار بدأ أهلياً ثم أمم لاحقاً وأصبح حكومياً.
والآن ظهر التعليم الخاص، وهو يشي بأن (أي زول عنده قروش عايز يستثمرها كذاك الذي يريد فتح دكان من شدة استسهاله). لكن التعليم على زمننا كان مفتوحاً، ووالدنا شيخ “المليك” كان يقول (أي زول يجي قدام الباب بتعلم حتى من غير قروش البقدر يدفع والما بقدر برضو بتعلم).. هذا ما يشير إلى مدى الاشتراكية التي كان يتمتع بها السودانيون. والمعلمات في هذه المدرسة أنا وأخواتي وبناتهن.
{ مَن مِن السيدات زاملتهن في التدريس؟
ـــ كانت منهن “آمال مكي شبيكة”، “مريم الجاك الخليفة” و”شهوة الجزولي”.. هؤلاء بعد أن تخرجن في أم درمان الثانوية لم يركن إلى البيوت شأن أخريات بل قررن العمل في المدارس بمرتبات بسيطة.
{ كم كانت المرتبات؟
ـــ كنا نتقاضى ما بين خمسة إلى ستة جنيهات، ولما نلح على “المليك” في زيادتها كان يردنا بأنكن (بتاكلوا ولا بتشربوا فيها).
{ بدأت التعليم في فترة الأربعينيات.. هل واجهت إشكالية في أن تقف المرأة أمام الأولاد وتدرس؟
_ على الإطلاق لأن الأولاد ومنذ طفولتهم يدخلونهم رياض تعلم القرآن بنصيب كبير، ومدرسة القرآن كان يطلق عليها (فقيهة)، ونظرة المجتمع للمعلمة يملأها الحب والاحترام حد التغني لها. وحتى تحصل المعلمات على حق تقرير مصيرهن خرجن في التظاهرات.
{ أنت مؤسسة اتحاد المعلمات.. والمرأة تكوّن اتحاداً مستقلاً هل ثمة صعوبات واجهتكن؟
ـــ بالعكس، بالنسبة للمدرسات كان هناك قبول من المجتمع، وكانت تحضر إلينا المفتشات الإنجليزيات وهن لا يعرفن اللغة العربية، والترقي في حكومة السودان كان بمعرفة والإلمام باللغة العربية خاصة الإنجليز، لذا السكرتير الإداري مستر “جيمس بيرسون” اهتم بتعليم اللغة العربية.. فالمرأة لم تجد معارضة لأنها تحتاج للتعلم. و”بابكر بدري” لما بدأ التعليم النظامي كانت النساء تذهبن لتلقي العلوم خلف ما يسمى (الصريف) وهو ساتر بينهن والرجال، ويجبن عن أسئلة الفقيه من خلفه، وهذا يدل على شغف المرأة بالعلم حتى فتح “بابكر بدري” المدرسة وبدأها ببناته وبنات الجيران.. وهكذا حتى أصبحت هناك جامعات.
{ متى فُتحت أول مدرسة ثانوية وسطى؟
ــ سنة 40.. فتحتها الإدارة البريطانية وأتت بمديرة إنجليزية، ومدرسة هي الأستاذة “نفيسة عوض الكريم” من رفاعة، كما أحضروا مدّرسات مصريات لكن حدثت مشاكل بينهن والسودانيات فأعادوهن إلى مصر وبدأت المدارس تخرج معلمات حللن محل البريطانيات.
{ نعتقد أن واحداً من الأسباب التي دفعتك للتدريس في سن مبكرة- أربع عشرة سنة- هي معارضة الأهل؟
ـــ أبداً.. لم تكن هناك مشكلة، فقط كانوا يمنعوننا السفر أنا مثلاً نقلوني (القولد) وعمري وقتها (14) سنة بيد أن ظروف أسرية حالت دون سفري، وحتى تسافر المعلمات لابد من أن تكون معهن حارسة…
{ (مقاطعة).. حارسة توصلها وترجع أم تقيم معها؟
ـــ (تقعد معاها) حتى فترة الإجازة، والمدرسة درجتها الوظيفية لا تسمح لها أن تركب درجة الأولى التي في الغالب تخصص للرجال، فكانت تركب درجة ثانية برفقة الحارسة.
{ حتى (14) سنة أنت معلمة.. كيف باشرت تعليمك حتى تحصلت على درجة الماجستير من جامعة (مانشستر) ببريطانيا؟
ـ كان من المفترض بعد أم درمان الأميرية نمشي كلنا إنجلترا بعد تخريج أول دفعة وكان وقتها بالمدرسة ما يسمى بـ(المخصوص) تدفع مقابله نقوداً، تدرس فيه بنات أعيان أم درمان “محمد أحمد البرير”، “صديق عيسى”، “عثمان صالح”، وبعض أعضاء المجلس البلدي. ولما الإدارة البريطانية في دائرة المعارف شعرت بأن هناك رغبة في تعليم البنات لأكثر من (الكتّاب) فكرت في فتح مدرسة متوسطة ومن لديه الرغبة في أن تتعلم ابنته أكثر من الابتدائية فعليه بتحويلها الـ(يونتي) وهي مدرسة الاتحاد العليا. وبالصدفة كان والدي في وزارة المعارف فقال لهم: (عندي الرغبة أن تدرس ابنتي نفيسة في اليونتي لكن هناك معارضة من أخيها إسماعيل له الرحمة قال ليها ما بتركبي معاي الطرماي)، وحينها كنا في مدينة بحر فطمأنه بأنهم سيفتحون مدرسة وسطى.. وقد كان.. وهي الآن معهد تدريب المعلمات.
{ أهي أول مدرسة؟ وما اسمها في ذاك الوقت؟
ــ نعم.. هي (أم درمان الأميرية)، وأذكر من زميلاتي “أم سلمة سعيد”، “زكية مكي عثمان أزرق”، “فاطمة البرير”، “صفية أبو عمر”، “آسيا سيد أحمد الشنقيطي” و”سعاد الشنقيطي”.. جميعهن بنات أسر مستنيرة. بعدها فكر آباؤنا وبعض المستنيرين بفتح مدارس للبنات ومدرستنا هذي كانت أول مدرسة ثانوية وكان اسمها مدرسة (البنات الأهلية الوسطى)، لكن الدكتور “محيي الدين صابر” الذي كان وقتها وزيراً للتربية والتعليم نوه بقوله: (عندنا مدارس حكومية تحمل أسماء رجال من أم درمان وإذا كان شيخ المليك بجهد ذاتي وأصدقاؤه وتلامذته أسسوا مدرسة تقصدها البنات من مدني، وكوستي، وعطبرة وحلفا، فيفترض تسمية المدرسة بالمليك).. وثبت بذلك الجهد.. ومنذ ذلك الوقت تسمى (المليك).
{ ربما انحدارك من أسرة مستنيرة ومتعلمة هو ما جعلك شغوفة بالعلم والمعرفة حد الولع بالدراسة والتدريس؟
ـــ صحيح.. وفوق ما ذكرت فأمي وأخواتها كن متعلمات وفتحن كثيراً من المدارس منها (الجزيرة اسلانج) و(الدامر)، و(مدرسة بربر) و(سنجة)، وكانت تقيم معنا مجموعة من بنات الأقاليم في البيت ولما تزايدن والدي استأجر لهن منزلاً وأحضر امرأة بأولادها للإقامة معهن، وحيث إن الزمن كان جميلاً فإن أهل الخير أعانوهن، وكان البعض يتطوع لمساعدة المعسرات رغم أنه لم يكن هناك إعسار بالمعنى المعروف، لأن المجانية كانت أكبر من المدارس الحكومية وهذا بشهادة أحد المشرفين الذي وقف على ذلك بنفسه ثم كتب تقريره.. ومن هنا جاءت فكرة مجانية التعليم.
ومن جانبنا أنشأنا نقابة المعلمات المجانية في الابتدائي والأوسط، خاصة البنات لأنهن كن يتزوجن صغيرات في سن (12) سنة، فكان لابد من تعليمهن بعض المهارات كالتدبير المنزلي والحياة الاجتماعية المختلفة، والحياة الزوجية، فلابد من أن تكون الفتاة مستنيرة وصالحة.
{ حديثك يلفت إلى مدى الترابط الاجتماعي وقيمة الكرم التي يتمتع بها السودانيون؟
ـــ طبعاً.. لما قيل إن هناك مجاعة في السودان، كنت وقتها أحضّر للماجستير في إنجلترا ناداني السوبر فايبر وهو يستنكر ذلك متسائلاً: كيف تكون هناك مجاعة في السودان؟ فقد كنت في المفازة ولم يك فيها سوق، المرأة تقوم بكل شيء، وبالفعل ففي المنزل كنا (ساعين) البقر، ونزرع الخضروات، ولا نشتري سوى السكر والشاي. وليس هناك (دكاكين) كبيرة فقط في أم درمان والمدن الكبيرة.. كانت الحياة بسيطة وسهلة.
{ بعد الحديث عن التعليم حدثينا عن زواجك.. وكيف كانت طقوس الزواج بصورة عامة؟
ــ تزوجت زواجاً تقليدياً.. زوجي قريبي.
{ كم كان عمرك وقتها؟
ــ طبعاً البنات كن يتزوجن صغيرات. وأنا (تأخرت شوية).. تزوجت في سن (25) سنة لأننا كنا مشغولين.. الفصل يكون فيه قرابة الخمسين والستين طالبة وكمية من الكراسات نصححها، بمعنى لم يكن لدينا فراغ لنفكر في الزواج أو (نقابض).. (زي ما بحصل هسي).
{ يعني تزوجت من غير حب؟
ــ (تضحك).. والله زواج تقليدي هو ابن عمي وكان ساكن معانا في البيت وليس هناك ما يدعوني لرفضه.
{ حدثينا عن تفاصيل زواجك؟
ـــ الزواج كان على حسب استنارة الأسر و(الناس يجوا من برة ويتكسروا ويدقوا الريحة.. وزواجي شبه تقليدي.. وما كان في رقيص عروس فقط أقعد كما الملكة).
{ المال و(الشيلة).. كيف كانت؟
ـــ لأن زوجي قريبي تجاوزنا (الحاجات دي)، لكن بصورة عامة (المال كان اتناشر ونص وافتكر أنا جابو مائة، وما كان في تمسك وتشدد).
{ كون العروس ما تشوف العريس والطقوس القديمة.. أنت مررت بها؟
ـــ كما ذكرت يتوقف على استنارة الأسرة وتفهمها، ونحن المتعلمات (تجي العروس تجلس كالملكة وحواليها صديقاتها).. وإذا في حفلة أو فنان حسب الظروف.
{ طيب.. أنتم أقمتم حفلة؟
ـــ حفلات كثيرة جداً “أحمد المصطفى”، “حسن عطية”، “التاج مصطفى” و”صلاح بن البادية”. و(الدخلة) كانت بالتزامن مع الحفلة التي أقامها “عبو”د لـ”هيلا سلاسي” فكان الفنان يغني عندنا ويمشي المسرح القومي وبالعكس.
{ زواجك كان ضجة كبيرة؟
ــ نعم.. أهلنا وأهل العريس حضروا من مدني بالقطار (السيرة).
ـــ من هن صديقاتك اللائي كن حولك؟
ـــ “خالدة زاهر” ربنا يديها العافية، “حاجة كاشف”، “فاطمة أحمد إبراهيم” و”محاسن عبد العال”، وهن من زففنني حتى الكرسي. ولأول مرة نحن رائدات الحركة النسائية العروس (ما تتدمدم)، يعني عملنا نقلة، وطبعاً وحتى تفتح العروس وجهها كان لابد أن يدفع العريس، وهذي كانت واحدة من معوقات الزواج، ما دفع بالشباب المتعلمين للزواج من الإنجليزيات والمصريات وتركوا السودانيات، فكان لابد من أن نحارب هذه العادات عديمة الفائدة. وفي الوقت ذاته مظهر تخلف، ولم نجد اعتراضاً من أهلنا في كشف الوجه.
{ حدثينا عن أولادك؟

ـــ أولادي “رفا”، الشهيد “أكرم” ضابط طيران، “أيمن” مستشار قانوني في دولة قطر، “أيسر” طبيب بيطري، “سحر” في إنجلترا و”وفاء” في السعودية، كانت سكرتيرة في السفارة البريطانية.
{ ما شاء الله… أنجبت أولادك وعلمتهم حتى برزوا وتقلدوا مناصب رفيعة ومعها كنت تدرسين حتى حصلت على الماجستير.. كيف كانت التربية في تلك الفترة؟ وهل هناك مشاركة من الأمهات؟
ـــ أولادي نشأوا في أسرة مترابطة، حيث البيت الكبير، بين شقيقتي “منيرة”، و”سميرة” والأخيرة حضرت الدكتوراه في مصر عن (زيادة التاء في الفعل الماضي) ووجدت إشادة من المصريين.. ساعدني أهلي في تربيتهم فكنت أحضرهم إليهم وآخذهم آخر اليوم.
{ كيف كان تعليمهم؟
ــ أدخلتهم مدارس أجنبية لكن والدهم رفض وقال (يطلعوا ويشيلو شنطة الدمورية ويتعلموا في مدارس الشعب السوداني) على أن البنات درسن في (سستر اسكول)، والأولاد درسوا في المدارس الأميرية.

المجهر السياسي


تعليق واحد