عبد الجليل سليمان

سودانيو اليمن بين سعير صنعاء وجهنم عدن


بين السودان واليمن حب غريب لا يفهم وكأنه يقين مرتجف، برق أعمى، هاوية صغيرة وكأنه غناء خافت.
فاليمانيون كانوا هنا، جبليون وحضارمة (شماليون وجنوبيون)، ودكان اليماني وفول اليماني (القِلابة) اللذيذة, والشيخ عبد الرحيم البرعي اليمني، الذي أخذنا منه حتى الاسم، فصار (البرعي) لقبا لأي عبد الرخيم (سوداني)، فمن مِن سودانيي الأربعة عقود السابقة لم يبكِ في حضرة إنشاد البرعي اليمني (قل لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحِنطِ والكفن؟/ خذ القناعة من دنياك وارض بها/ إن لم يكن لك فيها إلا راحة البدن). ومن منهم لم تأسره وتسلب لبه تلك الصوفية الشفافة وذاك الحب الغريب الصادر عن وجدان شفيف وصوت بارع حين ينشد البرعي اليماني (يا راحلين إلـى مِنـى بقيـادي/ هيجتموا يوم الرحيـل فـؤادي/ سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي/ الشوق أقلقني وصوت الحـادي/ وحرمتموا جفني المنام ببعدكـم/ يا ساكنين المنحنـى والـوادي/ ويلوح لي ما بين زمزم والصفـا/ عند المقام سمعت صوت منادي).
ليس ذلك فحسب، بل ظل البحر الأحمر ينحسر دوماً ويطأطئ أمواجه الباذخة أمام فيوض المهاجرين من اليمن إلى ساحله الغربي إلى سواكن وعقيق وقرورة وتوكر وإلى الجزر المتناثرة فانعقدت المصاهرات والزيجات وصار ذلك التداخل العظيم (لحم ودم) ونسبا، ولا زالت الباء الحضرمية تمسك بزمام الأسماء في شرق السودان، باوارث، باجنيد، بامكار، بازرعة وبابكر، ولن نستطيع لها حصراً، إذ لا زالت أغاني السماكة في شرق البلاد تترنم بـ(يابنات المُكلا يا دواء كل عِلة).
ولهذا كله، ولما تعجز المساحة هذه عن حصره، نحن نحب اليمانيين بهذه الغرابة التي لا تُفهم.
إلا أن بعض ما يحدث للسودانيين المهاجرين إلى هناك في الحرب الدائرة الآن، يجعل صوت الحب هذا يبدو وكأنه في قعر الخيال، يبدو واهناً بعض الشيء وكأنه يمشي بساقٍ مبتورة.
مؤسف أن يحدث ذلك للبعض، فالسوداني الذي يصعد الجبال اليمانية الشاهقة ليعلم ويداوي ويطبب لم يرسل طائرات ولا جُندا، وإنما ظل يحقن العقل والعافية بمصل الحياة رغم شح أوكسجين الجبال، لكنه (السوداني) المهاجر إلى حيث تدور رحى الحرب المجنونة يجد نفسه في مأزق يشبه لون الموت الأحمر القاني، يمد يده فلا يجد من يأخذ بها إلى الحياة، يستنجد ولا أحد ينجده، فالسعودية والإمارات ومصر و… وحتى الصين غير المتحالفة في عاصفة الحزم تجلي رعاياها، كلهم يفرون من جهنم صنعاء وسعير صعدة، وحجيم تعز، ولظى حضرموت، حتى الذين كانوا يظنون أنفسهم مخلدين في (جنات عدن) هربوا من (جهنمها) عدا السوداني (الشقي)، ينتظر إلى أن يثور البركان ثم يفكرون في إجلائه! أي عبقرية تلك؟ أن نترك هؤلاء مثل قصيدة تجلس على العتبة تاركة البيت لألفة يابسة!