مقالات متنوعة

احمد طه الصديق : ثورة أبريل هل سرقت؟!


كانت العاصمة تعاني من ظلام دامس وشلل في المرافق العامة بعد تنفيذ العصيان المدني الشامل عدا الطوارئ في المستشفيات الرئيسة، وتظاهرات في المدن الثلاث وضواحي العاصمة، تلك كانت الأيام الثلاثة الأخيرة من نهاية إسدال الستار على نظام الحكم المايوي.
وفي تلك الأجواء الملتهبة، كان يعمل في وكالة السودان للأنباء موظف وحيد هو نائب مدير وكالة السودان للأنباء المرحوم محمد حسني حواش، لتلقي أي أخبار ونقلها لجهازي الإذاعة والتلفزيون، وفي يوم الجمعة ظهراً تلقى نبأً من إدارة التوجيه المعنوي عن طريق الهاتف حمل ملخصاً خبرياً لخطاب الفريق سوار الذهب للوحدات العسكرية، مؤكداً على أهمية الدفاع عن ثورة مايو، لكن كانت المفاجأة للكثيرين أن الفريق سوار الذهب هو من قام بإعلان تسلم القوات المسلحة للحكم من براثن النظام المايوي، ولا شك أن هذا القرار لم يكن سهلاً للفريق سوار باعتبار أنه كان حريصاً على القسم الذي أداه لحماية النظام، بيد أنه تم إقناعه بواسطة القادة وعدد من الضباط من أجل القيام بالثورة حماية لاستقرار البلاد وحقن الدماء، وبما أنه كان حريصاً على تلك المبادئ، وافق لقيادة العملية التي لم تتطلب جهداً كبيراً وإسالة أية قطرة من الدماء بعد التوافق التام بين القيادات العسكرية، ويحمد للفريق عمر محمد الطيب عندما تفجرت الانتفاضة الشعبية في أبريل «1985» أنه لم يطلق يد جهاز الأمن لارتكاب أعمال وحشية ضد المدنيين الثائرين إلا في إطار الاعتقالات المحدودة واستخدام غير مفرط للقوة في معظم الأحيان، وحين احتدمت الثورة الجماهيرية وبات النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة شهد الفريق عمر اجتماعاً حاشداً مع قادة الوحدات العسكرية بالخرطوم، طالبهم بالانضباط وذكرهم بأن الرئيس نميري هو الرئيس الشرعي للبلاد والذي جاء عبر انتخابات مباشرة إلا أن هذا التحذير لم يمنع قادة هذه الوحدات بالاتفاق في أقل من أربع عشرين ساعة لإزاحة النظام في ثورة بيضاء تم خلالها اختيار المشير سوار الذهب رئيساً لمجلسها العسكري.
ولم يجد الفريق سوار الذهب آنذاك شهوة للسلطة في الاستمرار فيها رغم أن بعض التيارات كانت تضغط في هذا الاتجاه، لكنه كان مصراً على الوفاء بعهده بتسليم السلطة، وقد فعل ذلك.
وقد شهدت الفترة الانتقالية انفراجاً وانفتاحاً كبيرين في الحريات والحراك السياسي الحر المفتوح، حيث مارست كل الأحزاب السياسية نشاطها السياسي دون قيود أو كوابح، فكانت الندوات تقام في الميادين العامة، كذلك كانت الصحافة تتمتع بحرية كاملة دون رقابة أو قيود في تلك الفترة، وكان هناك سجال ساخن وساخر في عدد من الصحف خرج في كثير من الأحيان عن المعايير القيمية الصحفية، وكان أشهر تلك السجالات الساخنة والساخرة بين صحيفة «ألوان» التي كانت بمثابة المدافع بذكاء عن الجبهة الإسلامية، وبين صحيفة «الوطن» التي يرأسها المرحوم سيد أحمد خليفة، ساهمت في زيادة توزيع تلك الصحيفتين، وقد قامت «الوطن» لاحقاً بتبني حملة ضد ترشيح د. الترابي في دائرة الصحافة جبرة.
أما صحيفة «القوات المسلحة» في الفترة الانتقالية فكان الرائد المرحوم محمد مدني توفيق عبر عموده «من الواقع» يشن حملات منظمة ضد التجمع الديمقراطي، محرضاً المجلس العسكري والعسكريين ضده حتى أنه كتب بوضوح في أحد المقالات أن التجمع الديمقراطي عدو للقوات المسلحة.
ولكن في الحقيقة أن كل التيارات السياسية لم تكن توجه نقداً للمجلس العسكري ربما حرصاً على مرور الفترة الانتقالية بسلام وإتمام العملية السياسية بقيام الانتخابات.
لكن لم تفلح الأحزاب السياسية خاصة حزبي الأمة والاتحادي الحاكمين من الحفاظ على النظام الديمقراطي، ولاحقا ً كشف الفريق عبد الرحمن فرح أنه كمسؤول عن الأمن في تلك الفترة، كان يعلم تحركات انقلاب الإنقاذ وقام بإخطار الصادق المهدي رئيس الوزراء حتى يعطيه الضوء الأخضر للتعامل معهم ولكنه رفض، ربما لأنه استسهل الموقف وظن أن الموقف قابل للاحتواء بالمفاوضات السياسية وليس بالاعتقال، وربما ظن أن الجبهة الإسلامية ستتردد عن القيام بهذه الخطوة خشية إنفاذ ميثاق الدفاع عن الديمقراطية.
ولعل السؤال الملح بعد تلك السنوات، هل فعلاً سرقت الانتفاضة الشعبية بقيام حكومة حزبية كانت اجتراراً للتاريخ السياسي السوداني بحكم التوارث الميكانيكي للثقافة الشعبية السائدة، حيث البعد الطائفي المتجذر وقلة خيارات الوعي الراشد إلا لدى الصفوة المحدودة العدد.
وهو أمر استفادت منه جماعة الإنقاذ عندما استولت على السلطة في يونيو من العام«1989» برفع شعارات إسلامية تراهن على الشفافية ونبذ الطائفية وتحقيق العدالة الاجتماعية بعيداًَ عن كاريزما الزعامات الطائفية، لكن رغم مرور أكثر من عقدين ما زالت تواجه الإنقاذ بتسمياتها المختلفة معضلة بين تحقيق الواقع والمثال.
أخيراً، يصعب التكهن بمدى التغيير الذي طرأ على الوعي السياسي لهذا الجيل، لكن الثابت أنه متسارع جداً وهو ما يمثل قراءة معقدة لمآلات التحولات في المستقبل القريب.