د.عبد الوهاب الأفندي

رياضة تجرع السم في طهران


عندما تدفق الإيرانيون والإيرانيات على شوارع طهران مساء الخميس الماضي للاحتفال ببوادر رضى «الشيطان الأكبر» عن «الجمهورية الإسلامية»، كانت المشاهد في حد ذاتها رسالة لحكام إيران قبل ان تكون رسالة للعالم. معظم الفتيات خرجن حاسرات الرأس، وكان الشباب يرقصون في الشوارع. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت التعليقات الساخرة. أحدهم تساءل: «غداً الجمعة، هل نهتف بالموت لأمريكا عقب الصلاة أم لا؟». وتندر آخر: «لقد ذهبت إلى المتجر فلم أجد أي ويسكي. أي اتفاق هذا؟»
فهم الجميع ما حدث على انه انتصار للتيار الإصلاحي ضد هيمنة المتشددين الذين تضاعف اجتهادهم لوأد الإصلاح في أعقاب «الثورة الخضراء» التي اندلعت في عام 2009 احتجاجاً على تزوير الانتخابات لمنع فوز المرشح الإصلاحي حسين مير موسوي. ولهذا كانت صدمة كبيرة للمؤسسة الحاكمة حين حقق روحاني، المرشح الوحيد المحسوب على معسكر الاعتدال، نصراً كاسحاً من الجولة الأولى في انتخابات 2013، التي شارك فيها 72٪ من الناخبين الإيرانيين البالغ عددهم خمسين مليوناً. وكان هذا أبلغ دليل على عدم صحة نتيجة انتخابات 2009 التي أعطت احمدي نجاد أكثر من ثلثي الأصوات في مواجهة مع موسوي. ذلك أن موسوي مرشح أكثر شهرة، ويتمتع بدعم أوسع بين المعتدلين والمحافظين معاً، كونه كان رئيس وزراء إيران أيام الحرب مع العراق، وكان مقرباً من آية الله الخميني.
وقد كان اصطفاف الشارع الإيراني خلف الإصلاحيين ظهر بوضوح منذ عام 1997، حين فاز المرشح الإصلاحي محمد خاتمي بقرابة 70٪ من الأصوات، ثم ارتفع رصيده إلى 77٪ في انتخابات عام 2001. عندها أصاب الذعر معسكر المتزمتين بقيادة خامنئي، فبدأ حربه القذرة ضد الشعب الإيراني، بداية بحملة منسقة ضد الإصلاحيين، شملت اغتيالات لأبرز رموز التيار، وتلفيق تهم لآخرين، وسجنهم. صاحب ذلك حملة لإغلاق الصحف الإصلاحية، بينما حظر مجلس صيانة الدستور ترشح 3،500 ممن تقدموا لانتخابات البرلمان في 2004، معظمهم من الإصلاحيين، بمن في ذلك غالبية نواب البرلمان في ذلك الوقت!
اتخذ المتشددون احتياطات أكثر في انتخابات 2013 الرئاسية، حيث كان جل المرشحين الثمانية من المحافظين، وعلى رأسهم محمد باقر قاليباف، عمدة طهران ذو الشعبية الواسعة، ومحسن رضائي، رئيس الحرس الثوري الأسبق، وعلي أكبر ولايتي، صاحب أطول فترة في وزارة الخارجية والمقرب من خامنئي، وسعيد جليلي، أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي في ذلك الوقت، والمستشار السابق للمرشد الأعلى. وعليه كان شبه مؤكد أن يفوز أحد هؤلاء بالانتخابات، خاصة وأن استطلاعات الرأي كان تضعهم في المقدمة، خاصة قاليباف.
وعندما بدأ نجم روحاني يرتفع بعد التأييد العلني له من قبل كل من خاتمي ورفسنجاني، وانسحاب المرشح الثاني المحسوب على تيار الإصلاح، محمد رضا عارف، اتخذ النظام إجراءات صارمة باعتقال نشطاء حملة روحاني، وتوجيه تحذيرات قوية له من قيادات الجيش عندما احتج على هذه الخطوات. وعليه كانت الصدمة قوية للحرس الثوري والمرشد عندما أعلن فوز روحاني، وبدأت خطوات حاسمة ما تزال جارية لتشديد قبضة المتشددين، بالتعاون مع البرلمان الذي يهيمنون عليه. فقد أعقب فوز روحاني حملة غير مسبوقة على المعتدلين والإصلاحيين في الجامعات ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني، ولم يسلم من ذلك حتى رفسنجاني الذي تعرض لحملات تشهير ولاعتقال أفراد أسرته. بل طالت الحملة وزراء وقياديين في حكومة روحاني تمت الإطاحة بهم أو رفض المجلس التصديق عليهم.
وقد كان من أهم المؤثرات في نجاح روحاني، إضافة إلى دعم الإصلاحيين له وكراهية الشارع الإيراني للمتشددين، هي أنه ركز في حملته الانتخابية على ضرورة معالجة عقلانية وناجعة للملف النووي الإيراني بغرض إنهاء المقاطعة الغربية التي شلت الاقتصاد الإيراني. وكان روحاني يتولى هذا الملف بين عامي 2003 و 2005، حيث حقق إنجازات مهمة قبل وصول أحمدي نجاد للحكم وغلبة المتشددين. وعليه كانت وعوده في هذا المجال من أهم ما جذب الإيرانيين الذين ملوا من العقوبات.
عليه لم يكن مستغرباً أن يخرج روحاني على الشعب عقب إعلان هذا النجاح الكبير للمفاوضات ليستثمره أقصى استثمار، وعملياً يبدأ حملته الانتخابية مبكراً للجولة القادمة (هذا بالطبع إذا لم يقرر مجلس صيانة الدستور أنه «لا يصلح»). وقد ابتدر الخطاب باتجاه الرأي العام المحافظ، حيث ثمن «انتصار إيران» باحتفاظها بـ «حقوقها» في التخصيب والدورة النووية كاملة، و «صمود» المفاوضين وإدراك الغرب بأن الضغوط لن تجدي مع إيران. ولم ينس الرجل أن يشكر المرشد ويثمن «توجيهاته» القيمة، وزاد بأن خاطب العوام بالتنويه بأن المرشد لم يكن وحده في هذا الجهاد التفاوضي، بل إن «إمام الزمان» شارك في ذلك، وكذلك كان بقية الأئمة «المعصومين» حاضرين، بل إن فاطمة الزهراء نفسها، رضي الله عنها وأرضاها، كانت ساهرة على متابعة الملف النووي الإيراني، وداعمة لجواد ظريف وبقية فريق المفاوضات.
ولكن هذه المحاولات لم تنطل على المحافظين. فقد كان المرشد –المدعوم بدوره من قبل الزهراء والأئمة- استبق إعلان الاتفاق بأيام بالتحذير من أن الولايات المتحدة تستخدم الضغوط الاقتصادية لمحاولة تأليب الايرانيين على الحكم الإسلامي. وهذا ينبىء عن تخوف مما حدث فعلاً، وهو أن يفرض الرأي العام الإيراني على إيران «تجرع السم» (بسحب توصيف معارضين للاتفاق، وتذكيراً بوصف الخميني لقبول وقف الحرب مع العراق في عام 1988 بأنه كان يشبه تجرع السم)، والقبول بخضوع كامل للمنشآت النووية الإيرانية للإشراف الدولي، تماماً كما كان حال العراق يخضع للتفتيش الدولي المستمر بعد حرب الكويت. ولعل خامنئي كان يهيىء الإيرانيين بصورة غير مباشرة لهذه الجرعة الجديدة، ويتهيأ في نفس الوقت لنسبة بعض الفضل في «النصر» الذي تحقق لنفسه وأنصاره المتشددين.
وقد ختم روحاني خطابه بإعلان خط معتدل في مجمل سياسات حكومته، مؤكداً أن ما حدث سيكون بداية الانفتاح على العالم وعلى دول الجوار. ولا شك أن روحاني ومعسكر الاعتدال جادون في المساعي للتقارب مع بقية العالم، وإصلاح العلاقات مع دول الجوار. فهم ضحايا لشطط الحرس الثوري وبقية الغلاة مثلهم في ذلك مثل سكان المثلث السني في العراق وأهل سوريا واليمن. ولكن الثابت أيضاً هو أن روحاني والمعتدلين لا يملكون من أمرهم شيئاً. فقد استفاد المتشددون من دروس فترة خاتمي والثورة الخضراء كما اتعظت قيادات الثورة المضادة في مصر من عبرة ثورة يناير. وعليه فقد شددت الثورة المضادة الإيرانية قبضتها على كل شيء كما فعل أشياعهم في مصر، وأصبح الحرس الثوري هو الذي يحكم، كما أن الأمن وفلول نظام مبارك هي التي تحكم في مصر. وعليه فإن أي تعهدات من روحاني للغرب أو لدول الجوار لا قيمة لها. في إيران، كما في مصر، الدولة أمام مفترق طرق: إما السقوط في قبضة المنظومة الأمنية المعادية لتطلعات الشعب، وهو ما يعني أنها ستكون حرباً على شعبها وتصدر أزماتها باستمرار إلى دول الجوار، وإما أن تنزل على إرادة الشعب الديمقراطية والإصلاحية، فتتصالح مع نفسها وجوارها والعالم. ولكن الذي يبدو هو أنه بالرغم من تناول جرعة أخرى كبيرة من السم، فإن المستقبل في البلدين لا يبدو مشرقاً على المدى القريب. ولا بد أن ننتظر حتى تستهلك الطغم الحاكمة نفسها، وتدمر ما شاء الله لها من بلادها وشعوبها، حتى تحدث اليقظة ثم الخلاص، ولكن بأثمان باهظة للجميع. فمثل هذه الأنظمة تحول تجرع كاسات السم إلى رياضة حتى تبلغ الجرعات المقدار الكافي للانتحار.