محمد محمد خير

الإصلاح الآن والخراب غداً


كأنما الخشونة اللفظية التي سالت حبراً في الصحف من لسان الفريق محمد بشير سليمان، في حق الدكتور غازي صلاح الدين، قد وجهت لي شخصياً، لأن لغازي تمدُّدات في وجداني تجدولت عبر المقالات الفكرية الرصينة، والدقة السياسية المُحكمة، والنظر للأشياء من كل اتجاهاتها. يضاف لذلك تقديري لاطلاعه العميق لمكونات التراث العربي الإسلامي ومدارسه ومذاهبه الفكرية واهتمامه بالنظرة النقدية الجديدة للأندلس، ولأدبها الذي لم تستبن حتى الآن كوامنه.
ظللت أنظر بإعجاب طوال المسيرة السياسية للدكتور غازي حتى عندما كنت خصمه، وأنا في صفوف المعارضة، لكونه يكشف دائماً عن فكرة، وينتهج طريقة علمية في الرأي والتحاور والخصومة، لعله استمدها من تخصصه النادر في (البايو كامستري) ولم يكن هذا الإعجاب يقتصر عليّ، بل كان ممتدا لغيري ممن عاصروه وزاملوه. اذكر أن البروفيسور رياضي بيومي أحد ألمع علماء السودان الذي يحاضر الآن بجامعة السلطان قابوس كان يشيد بغازي ونحن في السجن.
عملت ضمن طاقم التفاوض بالدوحة حتى توقيع الوثيقة، وكانت هذه المدة التي امتدت لعام ونصف كفيله بتجذير ذاك الإلماح الشيق.
لم تعترض مشاعري تجاه غازي عارضة، إلا بعد أن أعلن عن حزبه الجديد، وكان مبعث اعتراضي أنه حزب سيصبح مثل (ضل الشق) وظل الشق لا يظل إلا نفسه، وذهبت في مقالي الذي نُشر قبل عامين إلى أن هذا الحزب لن يستطيع اجتذاب مثقف من خارج صفوف الحركة الإسلامية، ولن ينضم له عمال مهرة أو شخصيات قومية مؤثرة، ناهيك عن الشعراء والتشكيلين والموسيقيين وأصحاب المواهب، ذلك ببساطة لأنه حزب لم يلبِّ الشروط الموضوعية لقيام حزب، فو حزب إسلامي يقوده مفكر إسلامي ولا محيط له من خارجه بغير الإسلاميين، وذهبت للقول بأن الأجدى هو العمل داخل الحركة الإسلامية لتصحيح مسار الحزب الحاكم.
كأن غازي بعمقة الفكري الراجح لم يقرأ تاريخ الانقسامات السياسية في السودان بدءاً من انقسام مؤتمر الخرجين حتى انقسامه؛ فالتاريخ يحدثنا عن انقسام عوض عبد الرازق من الحزب الشيوعي، ثم معاوية سورج، وأخيراً الخاتم عدلان، ويحدثنا عن انقسام الفصائل الجنوبية وجبال النوبة وحركات دارفور، وانقسام مبارك الفاضل الذي يشقى للعودة للصادق المهدي بعد فشله في الإصلاح وفي التجديد، ويحدثنا عن حالات كثيرة ماثلة في التاريخ لم تقوَ على إنجاز برنامجها، ذلك ببساطة لأن الخلاف السياسي داخل المنظومة الواحدة لا يقود لتكوين حزب، إذا لم تكن هنالك حاجة موضوعية له.
الحاجة الآن تؤشر لقيام حزب ليبرالي ديمقراطي يرتكز على فكرة واضحة وعلى مخاطبة ما لم يخاطبه المؤتمر الوطني داخلياً وخارجياً، حزب يخرج من رحم الصفوف الوطنية الجديدة بخطاب منتج وذكي وفعال، وهذا الحزب نفسه وبكل هذه المواصفات لم تحن الشروط الحاضنة له، طالما لا يزال الرهان قائماً على تحالف القوى القديمة مع الحركات المسلحة.
ساءني جداً ما يُكتب عن غازي هذه الأيام، وما توجه نحوه من اتهامات باستلام أموال من الاتحاد الأوروبي، وبتعمده لتمكين (العتبانية)، وهي أسرة نذرت نفسها للتنوير المعرفي والعلم والريادة الصحفية في بلادنا، وساءني اتهامه بالوهم، فهو لا يزال مستيقظاً ويقظاً.
أدعو غازي باسم (الملح والمفاوضات) أن ينفض يده عن حزبه (الإصلاح الآن)، ويعود لمركز دراساته الثرة، ليشع إشراقه من جديد في دروب الإضاءة والوضاءة والرأي السديد.


تعليق واحد

  1. لا أعرف غازي ولم ألتقي به في حياتي ولكن أسمعه وأقرأ له عندما يكتب. وأعتقد أن هذا الجنرال العاطل محمد بشير سليمان شعر أنه لا مجال له لكي يشتهر الأ ان يختلق مشكلة مع شخص نظيف وعفيف عالى الاحساس بالمسئولية ومثقف ومفكر من الطراز الأول. والله أنه فعلا زمن المهازل والفضائح كيف يتهم هذا العسكري البليد رجلا هو العفة والنزاهة نفسها – لقد أضاع غازي وعمره كله مع الموتمر الوطني ليقل لي أي واحد منهم إن كان لغازي شركة أو عقارات أو مستشفى خاص أو جامعة أو كلية مثل غندور والطفل المعجزة وغيرهم. أنا شخصيا ليس لا علاقة بي بحزب غازي ولكن أقول له امضي مع هذا الجنرال العاطل للقضاء مهما كلفك من جهد ومال ووقت.