د. ياسر محجوب الحسين

الخرطوم.. القضاء أداة سياسية


بموجب عفو رئاسي أفرجت السلطات السودانية الخميس الماضي عن رئيس تنفيذية تحالف قوى المعارضة فاروق أبو عيسى (81 عاما)، ورئيس كونفيدرالية منظمات المجتمع المدني أمين مكي مدني (75 عاما)، بعد اعتقالهما أربعة أشهر على خلفية توقيعهما على ما عرف بميثاق نداء السودان في أديس أبابا في الثالث من ديسمبر الماضي.. قد يبدو الإفراج للوهلة الأولى أمرا إيجابيا يصب في مصلحة فك الاختناق السياسي وبادرة حُسن نية من نظام ظل يحكم قبضته على معارضيه بلا هوادة، بيد أن للقصة وجها آخر شديد القتامة حين يتحول القضاء في البلاد إلى معول انتقام وبطش في يد السُلطات الأمنية والسّياسية.. فالرجلان أحيلا لمحكمة الإرهاب ووجهت لهما عشر تهم من بينها “جرائم ضد الدولة” مثل تقويض الدستور وإثارة الكراهية ضد الدولة وتشجيع الحرب ضدها. لتصل أقصى عقوبة في حالة الإدانة في هذه الجرائم إلى الإعدام. وكان جهاز المخابرات قد اعتقل الرجلين بعيد عودتهما من العاصمة الإثيوبية، لا شيء سوى عدم رضا الحكومة عن توقيعهما اتفاقاً يدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية أطلق عليها اسم “نداء السودان”، وهذا الاتفاق يجمع طيفاً واسعاً من الأحزاب السياسية والحركات المتمردة المعارضة للنظام.
مسيرة رفع عصا القضاء في مواجهة المعارضين مسيرة طويلة، فكم من مرة وجهة تهم الخيانة العظمى لسياسيين معارضين مثل الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وحسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي، وغيرهما كثيرون. ويستطيع وزير العدل بموجب مادة في القانون الجنائي حفظ سير القضية أثناء سير المحاكمة. مما يعني استخدامها متى ما شاءت الحكومة وفقا لمآربها السياسية، ولذا كان من السهل على الحكومة تلفيق التهم ضد المعارضين وإشغال الرأي العام بالمحاكمات والإجراءات القضائية حينا من الدهر ثم سحبها في مرحلة من المراحل استنادا لصلاحيات وزير العدل بعد أن يؤتي الترهيب أكله.. فوثيقة نداء السودان التي وقعها الرجلان لا تتضمن أيا من التهم الموجهة لهما، ولا تتبنى العمل المسلح. بل تنص، صراحة، في ديباجتها على “العمل من أجل تفكيك نظام دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن والمواطنة المتساوية، عبر النضال الجماهيري اليومي، وصولاً إلى الانتفاضة الشعبية”. وتنص الوثيقة كذلك على “أولوية إنهاء الحروب والنزاعات وبناء السلام على أساس عادل وشامل، والالتزام بالحل الشامل، والاتفاق على الترتيبات الأمنية النهائية، ثم إيلاء الأزمات الإنسانية الأولوية القصوى”.
من قبل عدة أشهر أطلق الصادق المهدي انتقادات حادة لما يسمى بقوات الدعم السريع التابعة لجهاز الأمن والمخابرات وهي قوات في الأصل غير نظامية وُجهت بكثير من الانتقادات خاصة عملياتها العسكرية في دارفور.. لم تحتمل الخرطوم انتقادات المهدي لتلك القوات فقامت باعتقاله لأكثر من شهر، ووجهت له اتهامات تتعلق بأمن الدولة قد تصل عقوبتها إلى الإعدام أو السجن المؤبد، قبل أن يطلق سراحه ويغادر البلاد، بعد عفو رئاسي.. وبعدها وقع الرجل على (إعلان باريس)، وقابلت الخرطوم ذلك بعصبية وانفعال شديدين. وكان الإعلان عبارة عن بيان مشترك بين حزبه والجبهة الثورية التي تصنف في خانة المعارضة المسلحة. وحوى البيان نقاطاً تعكس وجهات نظر الطرفين حول قضايا الساحة السياسية.. ولم يشفع للمهدي معارضته لما عرف بوثيقة الفجر الجديد التي وقعتها الجبهة الثورية في يناير من العام (2013) في أوغندا مع عدد مقدر من أحزاب المعارضة الداخلية، وربما كانت ممانعة الرجل أحد أسباب فشل تلك الوثيقة التي نادت صراحة باعتماد العمل المسلح لإسقاط نظام الرئيس عمر البشير.
ليس استغلال القضاء في تصفية الحسابات السياسية حكرا على الخرطوم ولعل ما حدث في ماليزيا قبل سنوات لزعيم المعارضة أنور إبراهيم خير دليل حيث حوكم الرجل بالسجن خمس سنوات في تهمة يصعب تصديقها بارتكاب الفاحشة مع مساعد سابق له. وكانت المحكمة العليا برأته في عام 2012 من هذه التهمة التي أطلقت في عام 2008، مباشرة بعد انتصار تحالف المعارضة. وأودع أنور السجن أول مرة في سبتمبر من عام 1998 وهو يستعد لتولي رئاسة الوزارة خلفاً للزعيم مهاتير محمد الذي كان أعلن عن نيته التخلي عن الحكم ورشح أنور لخلافته. إلا أن خلافاً شديدا نشب بين الرجلين حول معالجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا إثر تبني أنور سياسة صارمة لمواجهة نفوذ عدد من أقارب كبار رجالات الدولة وسحب دعم الدولة عن مؤسسات يهيمنون عليها.


‫2 تعليقات