الصادق الرزيقي

لحظة تاريخية نادرة


> تشهد البلاد اليوم، ملحمة سياسية كبرى تتمثل في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تجرى في ظروف دقيقة تمر بها المنطقة بأسرها، ولا يختلف اثنان في أن الحالة السياسية الراهنة في وطننا تستحق أن يُنظر إليها بدقة وتمعن أكثر في أهمية التداول السلمي للسلطة ونبذ العنف وطلب السلطة عن طريق السلاح، فإذا كان هناك طريق سالك للممارسة السياسية والترشح لكل المناصب والمواقع من رئاسة الجمهورية إلى أدنى مستوى، فما الذي يجبر على حمل البندقية ومقاطعة الانتخابات؟
> مع تقديرنا لكل المعطيات المتعلقة بهذه العملية من حيث مواقف المعارضة السياسية والمسلحة، إلا أننا نؤمن بأنه لا يوجد خيار آخر بديل لهذه العملية الانتخابية التي تشارك فيها عشرات الأحزاب «44 حزباً» ويترشح لرئاسة الجمهورية ستة عشر مرشحاً وجدوا أنفسهم أمام الأمانة الثقيلة وفي مواجهة الحقائق الموضوعية مع الجماهير والشعب، فما يجري اليوم هو نهاية جولة طويلة سيكون حصادها في النهاية انتصاراً للشعب السوداني كله وليس لمن يفوز.
> ومن نافلة القول، الإشارة إلى أن التحول الديمقراطي الحقيقي عاشه السودانيون خلال الأشهر الماضية التي شهدت التحضير والاستعداد للانتخابات والحملات الدعائية، وكان فيها نوع متقدم من التنافس الحر والفرص الواسعة لمن أراد عرض بضاعته السياسية على عامة الشعب، وأُتيحت المجالات لكل التفاعلات المطلوبة والعمل الحزبي في إطار القانون حتى وصلنا إلى خاتمة المطاف ونهاية الأشواط بقيام الانتخابات التي تبدأ مرحلتها النهائية بالاقتراع والتصويت اليوم.
> إذا كان شعبنا يتطلع على الدوام إلى تحقيق الاستقرار والسلام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء نهضته وإصلاح حاله السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإنه لا سبيل إلى ذلك بغير الديمقراطية والمشاركة الفاعلة في الانتخابات، فبكل ما لدينا من قضايا شائكة وتعقيدات جمة في حياتنا السياسية وطريقة وكيفية إدارة البلاد، تبدو خياراتنا ضئيلة للغاية إذا أردنا صناعة السلام والتعايش بحرية ومودة وتسامح دون تباغض أو صدامات وحروب، فالأمة العاقلة في منعطفات تاريخها قد تتنكب الطريق مرة ومرتين لكنها لن تسير مكبة على وجهها مرات ومرات إلى الأبد، نحن أمة عظيمة صاحبة تجربة فريدة في كل منطقتنا ومجالنا الحيوي، لولا المؤامرات وألاعيب الأعداء، لكننا اليوم في مصاف الأمم المتقدمة التي قفزت ناهضة إلى الأمام.
> السودان بكل تاريخه وتجاربه مازال يعاني من غلواء النزاع السياسي، وطغيان المطامع على الأجندة الوطنية الخالصة لوجه الله والوطن، لقد جرَّب عدة مرات المسار الديمقراطي لكن لم يُكتب له النجاح ليكون مستداماً، وبسبب الممارسات الحزبية والتشاكس والتجاذب والنزاعات لم يكتب للديمقراطية طول بقاء، ومع ذلك عندما تأتي الأنظمة العسكرية تُهرع بعد سنوات إلى خيارات الشعب وتحاول تمديد مظلة المشاركة السياسية وتوسيعها ثم تتطور هذه حتى تصل إلى الديمقراطية والانتخابات، وهذا تحدٍ حقيقي نواجهه جميعاً حكاماً ومحكومين ومن يؤيد هذه السلطة ومن يعارضها، كيف نستطيع قبول بعضنا البعض ونحتكم إلى صناديق الاقتراع ونعود للشعب لنأخذ منه التفويض والقبول.
> سيقر الشعب ابتداءً من اليوم، الطريق الذي ينتهجه في تثبيت نهج الحكم وهويته، فلا رجعة للوراء، فالديمقراطية طريق طويل لا بد من السير فيه مهما كانت العقبات والأشواك، فخروج الناخبين اليوم لاختيار الرئيس القادم والبرلمان الجديد والمجالس التشريعية الولائية، ليس بالأمر السهل، هو كتاب جديد يخط الشعب سطوره اليوم، فالنتائج ليست مهمة بقدر ما هو مهم ترسيخ وتجذير العملية الانتخابية ونهجها في التربة السودانية ونشر ثقافتها وتعليم الأجيال القادمة مما يفضي إلى صلاح الأمة والوطن والشعب.
> الشعب السوداني المعلم سيظل كما هو معلماً لغيره من الشعوب التي تنتظر منه اليوم ملحمة جديدة تضاف إلى سجل تاريخه المشرف، فنحن علَّمنا الشعوب الثورات والانتفاضات الشعبية، وسبقناها إلى الديمقراطية وجربناها ولنا تراث ثمين من الخبرة فيها، فاليوم نضيف «مدماكاً» في صرحها العالي، ونكتب في كتاب الزمن والتاريخ أن كل شيء ممكن وكل شيء سهل وكل شيء طوع بنان الشعب السوداني!!