محمد محمد خير

ودعناكم الله


حين تطالع أعين القراء هذه الكلمات، أكون قد أحكمت – بإذن الله – أقفال حقائبي، وتوجهت نحو المطار الأخير لمدة 18 ساعة، حتى أبلغ تلك المضارب القصية المسماة بالأراضي الجديدة، لأمكث هناك ما يزيد على الستة أشهر، يفحص لي الأطباء أسرار الجسد، ويفضون سر الورم ويقررون ما تشاء دقة التطبيب.
أحمد الله كثيراً أنني حضرت مأتمي قبل أن أموت ووقفت على محبة الناس لي أيام محنتي العام الماضي. تفرست تلك المحبة بدءاً من رئيس الجمهورية حتى رئيس قسم الأخبار، وقفت معي دولة كاملة ومعارضة متعددة الطيوف، وأحباب وأصدقاء ومعارف، وآخرون أعرفهم.
ما أومض من بريق الشجو ذاك الذي أبكاني، عناق (حاجة آمنة) لي بعد عودتي، ودمعها الذي سح على كتفي. (حاجة آمنة) امرأة عفيفة، عينتها رئيسة (لقسم أم فتفت) بمطعمنا. حين هوت بجسدها على وانبجست دموعها أحسست أن تلك المدامع خارجة من (أم تلافيفها) بحكم المهنة.
جرس إنذار قوى الصوت دق بقوة على كل مسار حياتي، وجرح في الوعي ضرورة الانتباه، لكنه زادني قناعة برجاحة الإسلاميين؛ فقد توافد عليّ كل إسلامي السودان فضجت الآفاق بـ(جزاك الله خير)، لم يغب عن ذلك التدافع الأخوي المواسي إلا سيد قطب وحسن البنا. زارني البروف غندور ووجّه علي كرتي سفارة السودان بكندا بحضور (العملية). ولولا كراهيته للثناء وذكر أعمال خيره، لاستفضت حتى يدركني الصباح. هاتفني يحيى حسين بعد العملية من جوار قبر الرسول، وكذلك د.محمد مختار والفاتح علي صديق، وخصني أمين حسن عمر بجزء من هزيع ليل، وأقام رحلة بعد عودتي.
من جانبه زارني المهندس الطيب مصطفى برفقة ابنه، ولم يتفوه بأية عبارة عنصرية، وما زادني قناعة بجدواه انضمام الكاتب الزخار حسن إسماعيل لكوكبته.
صحفيون لا يحصيهم شعر الرأس زاروني بمنزلي وسكبوا على فراشي حبراً من محبة بلغة المتانة اللينة والشجن الأنيس.
يوم إجراء العملية خصصت لي صحيفة (السوداني) تلاوةً من كتاب الله، حتى انشقت لينا (وردة من دهان)، هذه الصحفية شديدة الشبه بابنتي إيمان التي إذا (قشرتني) تجدها.
وملأ الجزارون بيتي بالخراف وصاح بي أحدهم: (بعددا صلي لربك وانحر)، فوزعت عشرة منها (للمكوجية وماسحي الأحذية والنقلتية وسائقي الركشات والجناينية) فمازال قلبي صالحاً للشرب!
من خارج كندا وخارج السودان كان هاتفي مزاراً لمعظم شوارع الكرة الأرضية، من أستراليا كان يأتيني صوت الشيخ الحسين والكاتب البديع محمد عثمان إبراهيم، ومن أعتى دولة للاستكبار كنت أعانق يومياً مواساة الكاتب الفذ مصطفى البطل وزوجته وصوت الناطق الرسمي باسم العدل والمساواة والأستاذ أحمد حسين. ومن دولة قطر كان يسكب الندى على أذني الاستاذ المهيب عبد الله سيد أحمد المستشار الإعلامي لمجلس الوزراء القطري، وكنت يومياً مع فتحي الضو ذلك الكاتب الذي (يشهيك المعارضة) ولن أنسى فيصل الباقر الشيوعي المبجل و(الماركسي العدنان). أما بروفيسور عبد الله إبراهيم فقد أحاطني بود ترأرأت بحنوه أدمعي.
سأعود من جديد لتلك المستشفيات التي أرعبتني ولأولئك الخواجات الراطنين، لحقنة الصبغة التي تسدد على الوريد قبل فحص (السي تي سكان) ولذلك الخواجة الأصلع الذي تشع عيناه بكل خبث الفرنجة، وسأجري في هذه المدة فحص الـ(colonoscopy) الذي يمتنع من يجريه عن الطعام لـ24 ساعة، سأنتظر النتائج انتظار تلميذ يتطلع أبوه ليراه طبيباً ذوداً عن نطفة لم تذهب سدى.
سأكتب من هناك بإذن الله، فالمحبة دين، والتقشف الجسدي قادر على التغلغل عبر أضيق الثقوب ويستطيع النفاذ إلى أدق الوقائع والأمكنة. دعواتكم لنا، فأنا من (اقترف محبة البلاد والناس والتراب).


‫2 تعليقات

  1. أتمني لك الشفاء العاجل أخي أبو الليل .. إن شاء الله ترجع لأهلك ومحبينك بالصحة والعافية .. محمد حسين زميلك في مدرسة المقرن الثانوية العليا .

  2. بعيدا عن خصوصية سبب كل واحد من هؤلاء لك ، هنالك قاسم مشترك في حب هؤلاء القوم لك ونحن معهم كذلك هو ذلك الإبداع الذي يطل من كل حرف تكتبه … الحروف هي الحروف لا فرق ولكنك تهندسها وتشوعرها وتؤدبها أدب قبورة … نتمنى لك كل الشفاء عاجله وآجله …..