عبد الجليل سليمان

مقامة المفوضية


17 ابريل 2015 – 19:04
حجم الخط: Decrease font Enlarge font

لأبي الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد المعروف بـ(بديع الزمان الهمذاني)، وهو كاتب سيرة ومؤرخ يوميات وساجع لُغوي قلّ نظِيره في الأولين والراهنين. وله كتاب شهير ذائع الصيت واسع الانتشار موسوم بالـ(مقامات)، ومفردها (مقامة) وهي القصة القصيرة المسجوعة التي تشتمل على عظة أو مُلحة.

وفي مقامتي هذه التي أطلقت عليها (مقامة المفوضية) والتي هي بالتأكيد (مفوضية الانتخابات) لا غيرها، وهي كذلك – لا غير غيرها – هذه الأيام، إذ أنها استحقت لقب (بديعة) الزمان الانتخابي السوداني، وفريدة عصره وأوانه. لذا ولربما لشيء من صفاتها هذه (أهدتني من فضلها) هذه المقالة، فرددت إليها هديتها – من باب (تهادوا تحابوا) – بأحسن منها في هذه القصعة القلمية – التي أطلقت عليها (المقامة) فلتقبلها مني شاكرة حامدة وممتنة، خاصة وأنني أفعل ذلك، وأنا مرتاح البال مسرور ومغتبط، من جهة أنني ما أن أدخلت أصابعي في (جرابها) حتى أخرجت (المقامة الإبليسية) لبديع الزمان الهمذاني، فنظرت فيها فوجدت عِيسَى بْنُ هشام يحكي قَائلاً : أَضْلَلْتُ إِبِلاً لِي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَحَلَلْتُ بِوادٍ خَضِر، فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ، وَأَثْمَارٌ يَانِعَةٌ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ، وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَنِي بالجُلُوسِ فَامْتَثَلْتُ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي فَأَخْبَرْتُ، فَقَالَ لِي: أَصَبْتَ دَالَّتَكَ وَوَجَدْتَ ضَالَّتِكَ، فَهَلْ تَرْوِي مِنْ أَشْعَارِ العَرَبِ شَيْئاً؟ قُلْتُ :نَعَمْ، فَأَنْشَدْتُ لاِمْرِئِ القَيْسِ، وَعَبيدٍ وَلَبِيدٍ وَطَرَفَةَ فَلَمْ يَطْرَبُ لِشَيْء مِنْ ذلِكَ، وَقالَ: أُنْشِدُكَ مشِنْ شِعْري؟ فَقُلتُ لَهُ: إِيهِ، فَأَنْشَدَ: بانَ الخَلِيطُ وَلَوْ طَوَّعْتَ ما بَانَا/ وَقَطَّعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْلِ أَقْرَانا

حَتَّى أَتَى عَلىَ القَصِيدَةِ، فَقُلُتُ: يَا شَيْخُ هَذِهِ القَصِيدَةُ لِجَرِيرٍ قَدْ حَفِظَتْهَا الصِّبْيَانُ، وَعَرَفَها النِّسْوانُ. وَوَلَجتِ الأَخْبِيةَ. وَوَرَدِتْ الأَنْدِيَة، فقالَ: دَعْني مِنْ هذَا، وَإِنْ كُنْتَ تَرْوِي لأَبي نُوَاسٍ شِعْراً فَأَنْشِدْنِيهِ، فَأَنْشَدْتُهُ، (لا أَنْدُبُ الدَّهْرَ رَبْعاً غَيْرَ مَأْنُوسِ/ وَلَسْتُ أَصْبُو إِلَى الحَادِينَ بِالْـعِـيسِ) فَطَربَ الشَّيْخُ وَشَهَقَ وَزَعَقَ.

وأيم والله إن ما حدث لـ(عيسى بن هشام) في مقامة بديع الزمان الإبليسية من طرب أعقبته شهقة فزعقة، حدث لي في مقامة مفوضية الانتحابات (الملائكية) ربما، وأن تصريح الناطق باسمها وهو يبرر تقاعس المواطنين عن الذهاب إلى الصناديق الاثنين المنصرم بعد أن أعلن عنه أنه عطلة رسمية، إذ قال الرجل في تصريحات صحفية مشهودة ومحضورة ومنشورة (يوم العطلة لم يستغله الناس في التصويت بل استغلوه للنوم).

أصابتني الشهقة ودهمتني الزعقة فاضطررت إلى العودة إلى المقامة الإبليسية وقرأت مع أبي نواس (لا أَنْدُبُ الدَّهْرَ رَبْعاً غَيْرَ مَأْنُوسِ ولسْتُ أَصْبُو إِلَى الحَادِينَ بِالْـعِـيسِ/ أَحَقُّ مَنْزِلَةٍ بِالهَجْرِ مَنْزِلَةٌ وَصْـلُ الحَبِيبِ عَلَيْهَا غَيْر مَلْبُوسِ). فهل عرفت الآن يا مقام ناطق المفوضية، لماذا فضل الناس النوم عن الذهاب إلى (منزلة) المفوضية؟