منى سلمان

لا مركزية الحب


للقلب أحكام لا تخضع لمعايير العقل ولا تحتكم له، فبعض القلوب تؤمن بنظرية (لا مركزية الحب)، مثلها مثل ضل الدليب ترمي بعيدا دون حساب لجغرافية مكان المحبوب، فالمدن الكبيرة كالخرطوم الجاذبة لأهل النجوع والبوادي، تكون الجامعات فيها ومجالات العمل وسيلة تعارف للقادمين من شتى أنحاء البلاد، فمثلا قد تربط حبال المودة بين الشاب القادم من بلد الحديد والنار للعمل في الخرطوم وزميلته القادمة من سنار دون أن يحسب القلب حساب السيرة عابرة القارات كيف تكون ؟!! ولا يقوم بدراسة جدوى للحركة المكوكية في المستقبل بعد الزواج وانجاب البنين والبنات، ومواسم الهجرة في الإجازات والأعياد شمالا لأهل الزوج في عطبرة وجنوبا لأم العروس في سنار.
وما لا يحسب حسابه الأبناء في الانقياد لقلوبهم خلف الحب الأعمى، قد ينتبه له الآباء والأسر فيرفضون (جهجهة المساسقة) في دروب السفر خلف مواجبات النسابة، ففي واحدة من المدن المشطورة بين ضفتي النيل، حيث كان البنطون هو شريان الحياة الرابط بين شطريها، أحس (سعد) بالدبيب يسري في أوصاله ليشكل له انتباهة القلق تجاه (ندى) قريبته المقيمة في الضفة الغربية للمدينة .. آثر (سعد) أن يدخل البيوت من أبوابها فـ قطع البحر لمفاتحة عمه برغبته في الزواج من (ندى) حتى يحصل على موافقته أولا قبل أن يخبر والديه وبقية الأسرة، ولكن العم أجابه بمنطق العقل قائلا:
يا سعد ولدي إنت ود أخوي وبعرفك من يومك الولدوك .. شلتك في كتفي ده يعني ماني داير أفتشك ولا أأصلك.. لكن يا ولدي عليك الله شوف ليك بت تانية غير ندى بتي .
أصاب الاحباط (سعد) وسأل عمه: يعني يا عمي ما داير تديني ندى؟
أجاب العم: يا ولدي بتدورني أعرّس بتي لـ زولا من ناس الشرق ؟عشان باكر اليوم والتاني أطق عصاتي وأركب البنطون ماشي جاي .. ده عرس وده بكا ؟!!
هذا العم العاقل رفض نسب ما وراء البحار وكفى نفسه شر المساسقة ورا مناسبات النسابة اتراحا وافراح.
– جمع الحب طوال سنين الدراسة الجامعية بين (ابراهيم) ابن أم درمان و(فتحية) القادمة من عمق شرق النيل، وفي اليوم الموعود لتتويج العلاقة بالنهاية السعيدة، ضرب أهل العريس أكباد العربات قاصدين الشرق، وكان الترتيب أن تقوم السيرة بعد الغداء لتصل قبيل الغروب لان المسافة لبيت العروس لا تأخذ أكثر من الثلاث ساعات .. بين الزغاريد ودق الدلوكة تحرك بص السيرة بعد أن سبقهم (ابراهيم) ليصطحب العروسة من الكوافير.
مرت الساعة والساعتين على تحرك بص السيرة دون أن تظهر معالم طريق الوصول، فـ (طارت) نشوة الطرب وجاءت (فكرة) القلق الذي أمسك بتلابيب الجميع:
الحاصل شنو ؟ لسه ما وصلنا ؟
اضطر السائق أن يعترف بأنه ضل الطريق بعد محاولته التحايل على المسافة بسلك الطرق المختصرة، وهنا علت التوجيهات و(الشوبار):
أخد شمالك .. وأعصر يمين ..
وافتى اخر بـ (كدي اسرع .. النباري العربية ديك)
وقنع اخر ونصحهم بـ(أحسن نرجع يا جماعة لـ شارع الظلط) !!
سكتت البنات عن الغناء وساد الوجوم المتوتر بعد أن انحدرت الشمس إلى المغيب وعم الظلام، فصاح شقيق العريس الجالس على (بنبر) في منتصف البص، وقد كان من ذوي الصحة المرتاحة يضايقه الجلوس على كراسي البص الضيقة:
يلعن ابو حبكم .. هسي ابراهيم دا بنات الخرتوم كلهن ما ملن عينه ؟
ثم إلتفت للفتيات وانتهرهن بغيظ: دقّوا الدلوكة دي يا بنات
نقرت البنات على الدلوكة وبدأن في الغناء قليلا ولكن الخوف جعلهن يعاودن الصمت فعاود الصياح فيهم : غنن يا بنات !!
فوقفت احدى امهات العريس لتشجعهن بـ (النقدة يا بنات) .. وفي بيت أهل العروس، أصاب القلق (العريس) ونسابته بعد أن وصل بعروسه قبل عقابه، فأرسلوا العربات للبحث عن بص السيرة (الرايح) في سهوب البطانة، وبعد أن أفلح (الفزع) في العثور عليهم، عادوا بهم بعد العاشرة مساء وقد أخذ الاجهاد والخوف منهم كل مأخذ .. أثناء نزولهم من البص أمسك أحد (الضهبانين) بتلابيب (ابراهيم) وقال بأعلى صوته:
فتحية على العين والراس لكن بنات أم درمان ديل مالهم ؟ كدي عيبهم لي !!


تعليق واحد