د.عبد الوهاب الأفندي

بلاغات حول الانتخابات السودانية


(1)
لم أكن أود أن أضيع وقتي والقراء الكرام بمناقشة ما يسمى بالانتخابات في السودان، فهي لا تستحق التسمية. ولو كانت في البلاد عدالة، لوجب اعتقال ومحاكمة من ضيعوا موارد البلاد في هذه المهزلة.
وفي أضعف الإيمان، لوجب اعتقال ومحاكمة منسوبي الدولة الذين قاموا هذا الأسبوع باختطاف طبيبة شابة، ثم الادعاء كذباً بأنها لم تكن في قبضة الأجهزة الأمنية، مما سبب الكثير من القلق لأسرتها ومعارفها وكل سوداني شريف.
تم إطلاق سراح الطبيبة بعد ذلك بعد تعرضها لضرب مبرح، بدون مراعاة لأمراض تعاني منها. وقد أصبح التفريق فيه بين الأجهزة الأمنية وعصابات الخطف يزداد صعوبة كل يوم، ليس من المفترض أن يعاد انتخاب الحكومة، بل وضع كل قادتها في السجن.

(2)
ولكن بافتراض أن هذه كانت انتخابات حقاً، لكان لزاماً علي فتح بلاغات لدى السلطات المعنية ضد مخالفات عديدة تظهر للعيان على بعد الآلاف الأميال.
على سبيل المثال، أعلن حظر تام على الدعاية الانتخابية قبل يومين من الاقتراع، ولكن التلفزيون الحكومي ظل يبث دعايات وأغاني تحض الناس على التصويت، وتغطية مكثفة تتغنى بنزاهة الانتخابات والإقبال المزعوم عليها. وفي ظرف دعت فيه المعارضة لمقاطعة الانتخابات، فإن الدعاية للمشاركة في الانتخابات هي عملياً دعاية للحزب الحاكم وحلفائه، وبالتالي يجب أن يسري عليها الحظر. هذا مع العلم بأن الأجهزة الإعلامية الرسمية، المملوكة للشعب والممولة من المال العام، لم تسمح لدعاة المقاطعة ولا بدقيقة واحدة من وقت التغطية، لا قبل الصمت الانتخابي ولا بعده.
(3)
ولكن هناك مشكلة بسيطة: مثل هذا الشكاوى يجب أن ترفع للجنة الانتخابات «المستقلة». ولكن كيف العمل إذا كانت لجنة الانتخابات هي التي أنتجت ومولت هذه الدعاية الانتخابية المجانية للحزب الحاكم على حساب دافع الضرائب؟ نحن هنا أمام خيانة مزدوجة للأمانة. فلجنة الانتخابات تخلت تماماً عن استقلالها وانخرطت في خدمة الحزب الحاكم، وفوق ذلك استغلت المال العام لتمويل دعايته الانتخابية. زادت اللجنة فمارست وأجهزة الإعلام الرسمية التضليل والتدليس بعكس وجهة نظر واحدة حول الانتخابات، وتغييب وجهات النظر المخالفة. فحاميها هو حراميها، حرفياً هذه المرة.

(4)
لم يكن لهذه «الانتخابات» ضرورة بعد أن أعلنت المعارضة، وعديد من أحزاب الموالاة عدم الممانعة في استمرار النظام الحالي بدون انتخابات حتى يتحقق الوفاق عبر الحوار الوطني. ولو أن النظام قبل بذلك لكان حاز على شرعية مدعومة دولياً، أكبر بكثير مما سيتحقق له من انتخاباته المضروبة.

(5)
إلا أن قادة النظام والمتحدثين باسمه انتابهم فجأة إيمان العجائز بضرورة احترام الدستور وتمكين الشعب من اختيار حكامه! ولكن حتى بافتراض الصدق في هذه الصحوة الإيمانية بالديمقراطية وفضائلها، والدستور واحترامه، فإن الانتخابات لا تحقق الغاية منها إلا في إطار تفاهم أشمل. وبدون ذلك قد تفجر الانتخابات حروباً أهلية، كما حدث في أمريكا في القرن التاسع عشر، أو رواندا وكينيا ثم مصر حديثاً، أو تمزق البلاد، كما حدث في يوغسلافيا. فهل الرئيس البشير على استعداد لتسليم السلطة إذا وقعت مفاجأة كما حدث في نيجيريا في مطلع هذا الشهر، وخسر الانتخابات لصالح مرشح معارض؟ وماذا سيكون مصيره في هذه الحالة؟

(6)
إلا إذا افترضنا وجود مؤامرة بالطبع. فهناك مرشح استقال من المؤتمر الوطني قبل أيام من إعلان ترشيحه للرئاسة مستقلاً، وهو أمر يدعو إلى التساؤل. هل تسعى قيادات المؤتمر الوطني التي أطاح بها البشير إلى انتقام يحل كل مشاكلها، فتسعى لإنجاح هذا المرشح، وبالتالي تسوق النظام في نسخة محسنة؟

(7)
مهما يكن، فإن إيمان المؤتمرجية المفاجئ بالديمقراطية، و عقيدتهم في القدرة السحرية للانتخابات على حل كل مشاكل الدنيا يطرح أسئلة مهمة عن مبرر انقلاب البشير على حكومة الصادق المهدي التي لم يشكك البشير ولا غيره في أن الشعب انتخبها. ولماذا انقلب البشير بعد ذلك على شيخه الترابي، الذي «انتخب» بدوره من قبل الشعب رئيساً للبرلمان، ومن المؤتمر الوطني أميناً عاماً له؟ فإذا كانت الانتخابات الحقيقية لا تحل المشاكل، فكيف بالمزيفة أو المثيرة للجدل قبل أن تبدأ؟ ولماذا يؤيد انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب في مصر؟

(8)
خلاصة القول، إن الانتخابات مرحلة من مراحل التحول الديمقراطي، وهي لن تحقق هدفها إلا في إطار توافق يضمن سلمية التداول ويطمئن المشاركين على مصالحهم الحيوية وكل ما يعتزون به. فلا يعقل أن يقع تنافس انتخابي بين فئات تضمر كل منها إبادة الآخر، أو يريد بعضها تغيير ثوابت البلاد. على سبيل المثال، معظم الناس في بريطانيا لن يضنيهم السهر وهم يفكرون فيمن سيكسب الانتخابات القادمة، لأن «النظام» الجديد لن يقوم بحملة اعتقالات أو طرد من العمل ضد المعارضين، أو يغير الدستور أو يغير أوضاع البلد الاقتصادية او الاجتماعية.
(9)
المفاجأة كانت هي أن الحكومة خسرت رهانها على تحول هذه الانتخابات إلى استفتاء شعبي لصالحها. فرغم تحيز الإعلام وكل التجاوزات والضغوط وما أهدر من أموال، لم تزد نسبة المشاركين في المراكز الحيوية مثل العاصمة عن 16٪. ونحن هنا نحمد للجنة الانتخابات في العاصمة شفافيتها وكشفها عن هذه الحقائق. وقد اضطرت السلطات لتمديد الانتخابات ليوم رابع، ربما ل «معالجة» الأمر بالطرق إياها (نريد فتوى عن دستورية هذا التمديد!). وهذا يعني عملياً أن الحكومة خسرت هذه الانتخابات بانحياز 84٪ من الناخبين استجابوا لدعوة المعارضة للمقاطعة. فهل سنشهد احترام النظام الموعود لإرادة الشعب، وإعلان الرئيس استقالته وتسليم السلطة حسب نصوص الدستور؟

(10)
وبذكر احترام الدستور وما نص عليه من حقوق المواطنين، هل سيفتح القضاء السوداني تحقيقاً في حادث اختطاف وتعذيب الدكتورة ساندرا فاروق، وتعقب الجناة ومحاسبتهم؟ أم أن البلاد لم يعد فيها قضاء يحترم نفسه، كما لم يبق فيها نخوة ورجولة تحتم الانتفاض لانتهاك العروض الذي أصبح سنة وديناً في ظل «المشروع الحضاري»؟ أفتونا رحمكم الله يا أساطين الفقه والالتزام الدستوري الذي فرض عقد «الانتخابات» في موعدها، ولكنه لا يذكر شيئاً عن حقوق المواطن في سلامة شخصه وعرضه، ناهيك عن حقه في حرية التعبير والتنظيم والمشاركة!


‫3 تعليقات

  1. بعد قراءة مقالك … أرجو أن تجيب على هذه الأسئلة بكل صدق وأمانة… وهي لماذا عملت ملحق ثقافي في سفارة السودان بلندن في ظل هذا النظام الذي تتطاول عليه الآن ؟ ألم تكن تعلم أن هذا النظام قد جاء بانقلاب عسكري؟ أم انقلبت عليه الآن وصرت نصيرا للديمقراطية؟ نرجو منك ومن أمثالك ألا تتحدثوا عن الديمقراطية …. ومثل مقالاتك هذه لن تقنع من هم يؤيدون الحكومة ومن يعارضونها؟ لا نملك إلا أن نقول هداك الله ، وكن صادقاً مع نفسك أولاً.

  2. يا ود ابراهيم : معقول دي اسئلة عايزة اجابة !! قال ليك (ملحق ثقافي في لندن) تقول لي معارضة !! أعتقد أن الأفندي يعرف أن النظام جاء بانقلاب ولكنها (لندن) يا ود ابراهيم وليست مكان آخر !! تعرف يعني إيه لندن؟ يعني هايد بارك يعني مشاهدة مباراة مانشستر يونايتد وآرسنال من داخل الاستاد !! لندن يعني التسوق في هارودز وحساب في باركليز عرفت يا ود ابراهيم واللا لسع؟ السؤال مفترض يكون لو صدر قرار اليوم بتعيين الأفندي ملحقا (سغافيا) في باريس ؟ كيف تتوقع يا ود ابراهيم أن يكون رده!!! قال (كن صادقا مع نفسك ) قال

  3. الدجاج الالكتروني بداء بممارسة نشاطه في موقع النيلين !.

    بنفس المنطق فأنتم تدافعون عن النظام لان ما تتحصلون عليه من الانقاذ من هبات و عطايا ما كنتم ستحصلون عليه في ظل نظام ديمقراطي يتساوى فيه الجميع .