تحقيقات وتقارير

السودان.. الاستثمار العقاري.. بين (الجُبن) والضرورة!!


• تاجر عقارات: الدولة فرضت على التجار والمستوردين وأصحاب المصانع والشركات أكثر من (14) رسماً، ولذا تركوها ولجأوا إلى العقار
• ناشط في مجال العقارات: (……) لهذه الأسباب تحوَّلت الأرض في بلد شاسع واسع مثل السودان إلى سلعة (نادرة) مثل الذهب
• خبير شُرطي: العقارات الخالية تسبب هاجساً للأمن، وتضاعف من أعباء الشرطة لأنها تأوي المشردين واللصوص..
• د. المهل: هنالك عقارات لم يتم استغلالها منذ أكثر من عشرين عاماً، وتلك تُعتبر رؤوس أموال مُجمَّدة!!
• المدير العام لصندوق لإسكان القومي: قطاع الإنشاءات يمثِّل (4%) من الناتج القومي، وحراكه يعني انتعاش القطاع الاقتصادي عموماً..

(مسألة) الاستثمار العقاري التي (ضربت) السودان خلال الفترة الأخيرة، وجعلت كل مَنْ (وَسَّعَ) اللهُ له في الرزق؛ يلجأ إلى هذا القطاع، لخَّصها رجُل حصيف عركته (تضاريس) التجارة، فعلَّق على (غزو) الرأسمالية؛ الوطنية منها والأجنبية للاستثمار العقاري، بقوله: (الناس دِي أصابها ركود ذهني فأصبحت غير قادرة على التفكير والابتكار).
إذاً فتلك هي (المسألة). ولإجراء عملية (التحليل)، لا بُدَّ من (طرحها) على أهل الاختصاص بمختلف مشاربهم ليدلوا بدلوهم، لعلَّ وعسى نصل في خاتمة المطاف إلى (الحل) الصحيح.
نقاط على الحروف
بدأنا رحلة الاستقصاء في الموضوع بالاستماع إلى تاجر شهير بأم درمان كان يعمل في مجال استيراد المواد الاستهلاكية، لكنه حوَّل نشاطه منذ سنوات للعمل في الاستثمار العقاري. يقول علي لطفي لـ(السوداني): “الحقيقة التي لا بُدَّ من الاعتراف بها بدءاً؛ هي أنَّ عددا كبيرا جداً من التجار كانوا ينشطون في مختلف أنواع التجارة، لكنهم هجروا تخصصاتهم المعروفة واتجهوا إلى العمل في الاستثمار العقاري، وذلك لعدة أسبابها أهمها أن النشاط التجاري المعروف الذي يبدأ بتاجر القطاعي وينتهي بالمستوردين وأصحاب المصانع والشركات؛ فرضت عليه الدولة أكثر من (14) رسماً تشمل الضرائب والعوائد وغيرها من رسوم ما أنزل الله بها من سلطان – على حدِّ قوله- ولذا أصبحت التجارة طاردة للغاية، لأنه لا يمكن أن (يشتغل) التاجر للحكومة، ويترك أطفاله ومسؤولياته التي تبدأ بتعليم التلاميذ ولا تنتهي بعلاج الصغار والكبار، هذه المسؤوليات الجسام بدلاً من أن تشاركه الحكومة في حملها أضحت هي – ذات نفسها – تشكِّل عبءاً إضافياً عليه. وبالتالي هجر معظم التجار؛ لا سيما المقتدرون تجارتهم التي ورثوها عن آبائهم وجدودهم واتجهوا إلى الاستثمار العقاري، رغم (جُبنه)”.
(جابوه بالطيَّارة صانوه بالخسارة!!)
وعرَّج المستثمر في مجال العقار علي لطفي للحديث عن تجربة شخصية (حيَّة) قائلاً: “أنا اشتريتُ عمارة بأربعة مليارات جنيه (بالقديم) ومن ثمَّ قُمتُ بإيجارها كاملة مقابل أربعة ملايين في الشهر؛ وهو بكل تأكيد مبلغ متواضع جداً مقارنة بسعر العقار، ليس ذلك فقط بل حتى في حالة خروج المُستأجر فإنَّ المبلغ الذي سأصرفه على الصيانة سيكون أكثر من الذي جمعته في الإيجار، لكن على الأقل فإنَّ شرائي لهذه العمارة يحفظ لي أموالي من (التآكُل)”. ومضى بقوله: “شخصياً وكواحد من العاملين في الاستثمار العقاري أعترفُ تماماً بأنه استثمار جبان للغاية، لأنَّ أموالي (المُكدَّسة) في سبع عمارت؛ مثلاً، كان يُمكن أن أُسِّس بها مصنعاً ضخماً يسهم في زيادة الإنتاج ويستوعب آلاف الأيدي العاملة، لكن في اعتقادي أن الاقتراب من مجالات الصناعة والتجارة بأنماطها المعروفة؛ يعني (الانتحار) بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، ولذا انسحب عدد هائل من التجار الكبار؛ من (سوق الله أكبر) ولجأوا إلى الاستثمار العقاري، لأنه على أقل تقدير يجعلك في (بر الأمان)”.
الدولة في قفص الاتهام!!
وبقراءة تجمع ما بين التخصص العلمي والإلمام بـ(أحوال) السوق؛ يُقدِّر د.أسامة السماني، الأموال التي يستوعبها قطاع الاستثمار العقاري بمليارت الدولارات وليس بالجنيه، مشيراً في حديثه لـ(السوداني) إلى أنَّ الأرض تحوَّلت في بلد شاسع واسع مثل السودان إلى سلعة (نادرة) مثل الذهب، وقال: “إنَّ الحكومة بعد أن قَضَت على (يابس) أطراف المُدُن؛ تحوَّلت إلى (أخضر) الأراضي الزراعية، حيث تم تحويل القطاع الزراعي إلى سكني”؛ مؤكداً أنه يعرف مزرعة بالخرطوم بحري تم تقسيمها إلى (48) قطعة، وعُرِض المتر الواحد من القطعة بـ(4) ملايين جنيه، “وهذا دليل دامغ على أن الدولة نفسها أصبحت في عِداد (المُتاجرين) بالأرض”. وقال د.السماني: “لولا قرار بنك السودان المركزي بمنع تمويل العقارات عبر البنوك التجارية؛ لوصل الحال إلى وضع سيئ جداً، لأنَّ ثمَّة تجار كانوا يذهبون إلى البنوك و(بطريقة ما..!!) يرهنون مثلاً منزل لا يزيد سعره عن ثلاثمائة مليون؛ بمبلغ يصل إلى مليار جنيه، وهكذا تم تجميد آلاف المليارات في قطاع لا يُسمن ولا يُغني من جوع، مقابل انهيار تام لقطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة، وبالتالي فإنَّ قرار منع البنوك من التمويل العقاري، يمثِّل بداية السير في الاتجاه الصحيح، وسيقود في نهاية المطاف إلى الأسعار الحقيقية للعقارات لأنَّ الأسعار التي كانت سائدة خيالية ولا تمتُّ للواقع بِأية صلة”.
بين الديون والسجون
ويقول صاحب مجموعة حسبو العقارية، المستثمر في المجال؛ أحمد محمد الهادي لـ(السوداني): “إنَّ النظرة للاستثمار في العقارات تختلف من شخصٍ لآخر، فبينما هي أموالٌ مُجمَّدة في نظر بعض الاقتصاديين؛ لكنها بالنسبة للمستثمرين في قطاع العقارات مُفيدة جداً، لأنَّ أسعارها في زيادة مُتواصلة، وهذا ما يبحث عنه كل تاجر وكل مستثمر”. وأضاف: “صحيح أن الناشطين في مجال الاستثمار العقاري أسهموا إلى حدٍّ ما في إيقاف عجلة الإنتاج في مجالات أخرى كالصناعة والزراعة والتجارة، لكن الصحيح أيضاً أن الكثيرين دخلوا هذا المجال بعد أن تركوا تجارتهم الأصلية، لأنهم تعرَّضوا إلى خسائر، وكما هو معلوم فإنَّ كل تاجر يتحاشى السير في الطريق الذي يقوده إلى الخسائر، والتي تعقبها الديون ثم السجون”، مشيراً إلى أن أحياء الرياض بالخرطوم، وكافوري ببحري هي أكثر الأحياء التي توجد بها العقارات والشقق الخالية؛ ومعظمها مكتملة البناء ولكن ليس بها سُكان، وهذا يعتبر احتكاراً لأنَّ هنالك أشخاصاً يبحثون عن مساكن ولو في أقاصي المدينة.
الأبراج المهجورة!!
ظاهرة العقارات الخالية من السكان رغم اكتمالها من كل النواحي، بدأت تتسع في السودان خلال الفترة الأخيرة، وهي عبارة عن أموال مُجمَّدة رغم ما أُنفق عليها من مجهود ورصيد ضخم من العملات الوطنية والأجنبية. بتلكم العبارات بدأ الخبير الاقتصادي د.عبد العظيم المهل؛ حديثه لـ(السوداني)، وزاد بالقول: “صحيح أنه ليس هنالك إحصائية دقيقة ورسمية لهذه العقارات، لكن عدم استغلالها – العقارات الخالية – يعني أنه لا الدولة استفادت منها ولا استفاد المواطنون، أما خسارة الدولة فتتمثَّل في أنها فقدت أموالاً طائلة كان يمكن الاستفادة منها في الزراعة مثلاً، وأما المواطن فلم يستفد لأنه يستأجر أو بالكاد يسكن في الأطراف بمنازل تهدِّدها معظم الفصول مثل الخريف والشتاء، في حين أنَّ الشقق الفاخرة في وسط المدن مغلقة تشكو العزلة والوحدة، مشيراً إلى أنَّ الأثر المُترتِّب على خلو هذه المباني سلبي جداً من جميع النواحي (الاجتماعية، الأمنية، الاقتصادية، والصحية). فهو إلى جانب أنه يُشجِّع على السكن العشوائي؛ يقود كذلك إلى المُضاربة لتكون النتيجة النهائية هي انخفاض قيمة الجنيه السوداني، لأنه أقرب وسيلة لحفظ النقد بالأراضي والعقارات، بالإضافة إلى أن جزءاً كبيراً منها عبارة عن غسل أموال.
وقال د. المهل: “هنالك عقارات لم يتم استغلالها منذ أكثر من عشرين عاماً، وتلك تُعتبر رؤوس أموال مُجمَّدة كان يمكن استغلالها في مجالات إنتاجية أخرى، كما أنه ورغم ضخامة أغلب هذه العقارات إلا أنه لا يسكن بها سوى الخفير فقط، علماً بأن جزءاً كبيراً من أصحابها خارج البلاد حيث أنهم يستثمرون أموالهم في العقارات ويتركونها خالية، بدلاً عن الإيجار الذي لا يلجأون إليه خوفاً من الضرائب، مع العلم أنها كان يمكن أن تسهم في حلِّ مشكلة السكن بخفض أسعار الإيجار، منوِّهاً إلى أن أبرز سلبيات التمدد في هذا النشاط هو أنه أسهم في ارتفاع أسعار الدولار من خلال تعطيله لعجلة الإنتاج الحقيقية، كما أنه قلَّل إيرادات الدولة بتجميده أموالاً طائلة، وأيضاً ضَيَّقَ الفرصة على المحتاجين لهذه الأراضي التي (احتلتها) الأبراج العقارية.
خيرات ضيِّقة
ويقول الأستاذ المُساعد بمعهد الدراسات والبحوث الإنمائية بجامعة الخرطوم د.عبد الحميد إلياس، لـ(السوداني): “إنَّ مثل هذه العقارات سواء كانت خالية أو مأهولة بالسكان؛ تُسمى في علم الاقتصاد استثماراً؛ وهي بكل تأكيد أصبحت الوسيلة الوحيدة لحفظ الثروة، حيث أن الخيارات الأخرى ليست مُغرية مثل الاستثمار العقاري، فمثلاً إذا أودع المستثمر أمواله في البنوك فإنَّ عائد أرباحه لن يكون كبيراً، وإذا لجأ للتجارة في العملات الصعبة، فإنه لا يضمن العواقب، لتبقى أمامه خيارات ضيقة جداً أهمها ولوج الاستثمار العقاري أو الذهب حيث إنهما يمثلان الوسيلتين الآمنتين لحفظ الثروة من التآكل. وأشار د.عبد الحميد إلى أن الطلب على العقارات بدأ يزداد منذ العام 2000م، وتوقَّع أن يتحوَّل تجار العُملة إلى ناشطين في مجال الاستثمار العقاري لأنهم أصحاب ثروة، وأيضاً يتبعهم العاملون في غسل الأموال، فكل هؤلاء ربما يدخلون إنْ لم يكن دخلوا حقيقةً في الاستثمار العقاري باعتباره وسيلة سهلة وآمنة، مُنوِّهاً إلى أن الأثر المُترتِّب على ذلك هو اختلال يصيب الاقتصاد. وقال: “إنَّ الدولة أصبحت أكبر مُستثمر في مجال العقارات، مما أثَّر في ارتفاع نسبة التضخم”. ولحلِّ هذه الإشكالية قال د.عبد الحميد: “تجب مُعالجة الاختلال الذي أصاب الاقتصاد ككُل، وذلك من خلال وضع سياسات اقتصادية واضحة لإعادة التوازن بين جميع الولايات، كما يجب إيقاف المُضاربات بأعجل ما تيسَّر، مشيراً إلى أن للدولة دوراً كبيراً في الحاصل حالياً، باعتبار أنها تسبَّبت بسياساتها الخاطئة في ترك الكثيرين لتجاراتهم، والاستثمار في المجال العقاري بحيث إنها جعلت الاستثمار الحقيقي غير جاذب بل إنه مليء بالمخاطر.
مكان آمن للجريمة
إذاً؛ ومن بين السطور الفائتة يُمكن قراءة أن العاصمة الخرطوم قد ضاقت بـ(بنايات شاهقات) تحمل في جوفها مئات الآلاف من الشقق، وأنَّ كمِّية هائلة منها ما زالت مغلقة بـ(الضبة والمفتاح) في انتظار من يسكنها. وهنا ينتصبُّ سؤال مهم: هل يُمكن أن يتسبب ذلك في مشكلات أمنية؟ للإجابة اتصلت (السوداني) -عبر الهاتف- بالفريق شرطة صلاح الشيخ، فقال: “بلا شك فإنَّ العقارات الخالية عموماً تسبب هاجساً للأمن، وتضاعف من أعباء الشرطة لأنها تأوي المشردين واللصوص، بل إنها تشكِّل خطورة على السكان، حيث إنها تكون معبراً للمجرمين فينتقلون من خلالها من منزلٍ لآخر. وبالتالي فهي تمثل أماكن مناسبة جداً لانتشار الجريمة، وأيضاً يمكن أن تكون مصانع للخمور وتجارتها، ولذا نقترح على المحليات أن تفرض ضريبة ثابتة على الأراضي والعقارات الخالية.
نِعْمَة وليست نِقْمَة
لكن المدير العام للصندوق القومي للإسكان والتعمير، د.عبد الرحمن الطيب ايوبيه، تحفَّظ على وصف الاستثمار العقاري بـ(الجبان)، وقال لـ(السوداني) إنَّ تحويل رؤوس الأموال إلى هذا القطاع العقاري لا يعني بأيِّ حال تجميدها، لأنَّ هنالك (112) صناعة مُرتبطة بعمل الإنشاءات والإسكان بدءاً بـ(المُسمار)، ولذا نجد أنَّ قطاع الإنشاءات يمثِّل (4%) من الناتج القومي، بالتالي فالحراك في هذا القطاع الاقتصادي الحيوي المُهم يستوعب عمالة ضخمة. وقال: “مثلاً نحن في الصندوق القومي للإسكان والتعمير نستهدف إنشاء (50) ألف شقة، أي ما يعادل (3125) عمارة سكنية، ومن المؤكد أن تنفيذ هذا المشروع الذي بدأ فعلاً حيث تم تنفيذ (1300) شقة، يُحرِّك معه أكثر من مائة صناعة أخرى (أسمنت، طوب، شبابيك، نجارة، بوهيات، ووو..إلخ)، هذا إضافة إلى مئات الآلاف من العمالة التي يمكن أن تشتغل في هذا القطاع، أُسوة بالصناعة، التجارة والزراعة وغيرهما من الانشطة الاقتصادية”. وأشار د.عبد الرحمن إلى أنَّ صندوق الإسكان أو حتى الشركات المُستثمرة في المجال العقاري عندما تبني منزلاً فهى تبني أسرة؛ وناتج بناء الأُسر يعني بناء وطن كامل.

• الخرطوم: ياسر الكُردي- صحيفة السوداني