رأي ومقالات

(القطر الشالك انت ..يدشدش حتة حتة)


لا اخفي عشقي للقطار ..ولو خيرت بين كل وسائل السفر حديثها وقديمها لاخترت القطار ..ولو سلك الناس جميعهم شعبا وسلك البعض شعب القطار لاخترت شعب القطار …كنت اعتقد ان للجينات العطبراوية دخل بهذا الامر ..حتى قرأت للطيب صالح مقولة (لو كان الامر بيدي لربطت البلاد العربية من طنجة الى مسقط بالسكك الحديدية ..لا ادري ما الداعي الى العجلة والسفر بالطائرات وقد كانوا حتى وقت قريب يسافرون شهورا على ظهور الدواب). واعتقد ان الاديب الراحل كان يدافع عن بطء قطار البخار في ذلك الزمن ..فالقطارات الحديثة صارت لها سرعات مقدرة بالاضافة الى ميزة الامان التي قلما تتوفر في بقية المواصلات البرية.
الاقدار وحدها جعلتني اسافر الى نيالا في سنتي الاخيرة للتخرج من كلية العلوم البيطرية …ذلك زمن كانت الجامعات فيه تبعث بطلاب السنة الاخيرة للتدريب على نفقتها في بقاع السودان المختلفة …ولكن تلك قصة اخرى …كنت احس انني افوق زملائي درجة ذلك انني (بت القطر ) واعرف كل اساليبه ومصطلحاته ..ولذلك حذرت كل زميلاتي من الغبار الذي يجعل الانسان اغبش من كثرة تراكمه عليه ..ولكن ويا لدهشتي ..فقطارنا ذلك الذي شق الصعيد كان هادئا ..وسار متهاديا بين الحقول الخضراء ..داعبنا النسيم كما في تلك الافلام التي تعكس روعة الريف الانجليزي ..ولكن دهشتي لم تنحصر في جمال المنظر وسلاسة حركة القطار …دهشتي كانت ..انني ولاول مرة اسافر بقطر (الموية) ..
كنت اسمع عنه من ابي رحمه الله وهو الذي افني عمره في خدمة السكة حديد ..كان يقول فلان (ماشي براحة زي قطر الموية في كل حتة يقيف سندة )…وكنت احسبها نكتة ..فكيف ينتظر بعضهم القطار لياتي بالماء ؟؟ ولكنها كانت حقيقة …القطار الذي امتطيناه انا وزملائي ..كان يقف في كل (سندة ) عبر خط الغرب .. وترى الناس متزاحمين حول مجموعة من (الخراطيش ) الضخمة التي تفرغ الفنطاز … (وارجو ان يتولى احدكم التفسير لجيل اليوم) …كنت ارقب سعادة الناس بقدوم القطار ولهفتهم وهم يشاهدون اندفاع الماء من فم (الخرطوش) ..سبحان الله ..كان القطار يمثل لهم عودة الحياة مرة اخرى ..وترى الناس قد تركوا كل اعمالهم ليشهدوا امتلاء الصهاريج بالمياه …يقولون ان مصر هبة النيل …ذلك انه لولا النيل لما نشأت حياة في مصر ..فهل يجوز ان نطلق ذات المقولة على خط القطارالغربي ونقول ان تلك القرى هبة القطار ؟؟؟ ترى ما فعلنا وفعل بها الزمان ..تلك القرى والمدن التي كانت امنة …مطمئنة…تحلم فقط بقطار يأتي لها بالماء ..كلما حين!!!
قطر الموية في طريق الغرب ..وقطر البضاعة في طريق الشرق الى بورتسودان ..هم جنود مجهولون كانت بهم تستمر الحياة …فالقطارات (خشم بيوت) وليست كل القطارات هي القطار (المر …فيهو حبيبي والعلي ما مر )…فذلك الذي اخذ معوله وانهال تكسيرا وهدما على السكة حديد ..لم يكن يعلم انها شريان تستمد منه مناطق كثيرة نبض قلوبها ونور عيونها …و تلك التي غنت (القطر الشالك انت ..يدشدش حتة حتة)..لم تكن تدري ان الأيام ستصدقها باسرع مما تتصور …فهاهي القطارات كلها قد (تدشدشت )..والسكة حديد قد هرمت …وصارت تلك الاماكن تتلصص السقيا من فارغ الاكواب …وتراجعت حتى نغمة الغناء للقطار …و ..وووووو ….و(قطار الشوق متين ترحل تودينا …نزور بلدا حنان اهلها ..ترسى هناك ترسينا )…وصباحكم خير .

د. ناهد قرناص


‫2 تعليقات