الصادق الرزيقي

مات الدرويش المتجول.. رحل الفيتوري


«أ»
ليس في الياسمينة غير البكاء.. كما قال هو ..! وها قد أتى الوقت، يا موحش الذات في الذات.. وحدك وأشجارك البيض مثل الشوارع موحشة وحدها.. والقمر المتأرجح حول عيون العصافير يرتعش وينتفض منه الجسد ثم يسلم الروح، تاركاً دنياه التي لم يأخذ الخاسر أنها لم تعطه على استحياء وظن الغافل فيها أن الأشياء هي الأشياء!!
لم يكن المحيط الاطلسي يرقص عريانا في الشمس، ظهيرة أمس عندما انتصفت الساعة الثالثة، والدرويش المتجول يغفو إغفاءته الاخيرة ويترك للدنا كلها ما تقول.. بعد أن قالها وصمت لسنوات «لم يتركوا لك ما تقول».
بعض الموت مجد الأرض.. ما يقول في إحدى قصائده، في صمته يسافر وفي صمت يغادر وبصمته وانطباق شفتيه يرحل، تاركاً وراءه الدنيا منسوجة في حرير السراب والأوهام.. وتنكسر زرقة البحر فوق جناح النهار وتنفرط فضة الشمس في هضبات مداراتها، ولم يكن ليستريح هذا القلب النابض وقدمه الحجرية تتسلق سقف السماء.. يخلد في الشعر ويخلد فيه الشعر والقصيد والنشيد.
مات وهو منسكب في غيومه، والنار في شفتيه، ودمه وقلبه وشوقه وأعينه التي أعياها الدمع والبكاء والشجي قد غطاهما وللأبد وهو يرنو لبلده وجسده النحيل يوارى في تراب قصي بعيد..
عد إليها.. يعد وطن في غنائك ..
أنت الذي قلت ساعة ثلت: الرحيل
إنني ذاهب غير أني أقول لكم
بعض هذا الحضور غياب..
وبعض الغياب حضور طويل..
«ب»
ترتطم شمس الحزن عليه في ذات العتبات التي ارتطمت شمسها في العذابات الطوال التي عاشها بين صخور المدارات، كان قوساً تحول ناراً وزيتونة، لم يبح بسر النحول حتى غاب تاركاً سره في أشعاره التي لم تفك طلاسمها ولن.
لم يكن محمد الفيتوري.. إلا دمعة أخيرة في خد الألم العربي والشعر العربي والزمن العربي.. لم تكن الحياة عنده إلا تلك الومضات الرقيقات الرشيقات الدقيقات والمتعرجات السريعات وهي برقن ثم يتأرجحن في السماء ومهاد الأرض، ويرعدن بصوته كأنهن قادمات متعجلات من دنيالا لا يملكها هو ولا غيره من الدارويش.
لذلك عاش درويشاً متجولاً.. صوته الشعر ودعاؤه الحزن وبخوره الصفاء المالئ جلبابه وجبته وكوفيته التي يغطي بها رأسه في ليالي الشتاء الطويلة.. كانت أباريقه المصبوغة بلون الغسق والطلاء الخزفي النادر يصب منها كؤوساً على رخام الحياة الملون، ثم لا يلتفت إلا وهو غارق في حريق الهموم يمقت عصور التلكؤ والتباطؤ والخذلان وطعم الهزائم المر يقف غصة في حلقه.
في المكان الموحش دائماً تجده، وفي المكان الساطع البهي اللامع تجد كلماته وشعره.. وها قد أتى الوقت وهو يترجل من حصان البرق الذي امتطاه لأكثر من ستين عاماً وتزيد.. تنفخ ريح الزمن خلفه راياتها وتسير قوافل من بقع الماء خلف ظله المضيء.
«ت»
حتى لحظة رحيله بعد أن أنشبت المنية مخالبها وأظفارها كانت الكلمات القليلة التي ينطق لسان الفيتوري عند لقائنا به في داره بالرباط وهو جالس على كرسي متحرك هي «الله.. الله.. الله».. كنا آخر من شاهده قبل شهرين، لف جسده في معطف من قماش من الصوف سميك رمادي اللون مخطط بخطوط سوداء باهتة، له عروة غاصت فيها رقبته، وأدخلت قدماه في حذاء من القماش مبطن بالصوف الأبيض، تسكن شفتيه حيئذٍ بسمة غريبة المعنى وتجول في عينيه فرحة مطلقة كاللؤلؤة على فم النار.. محلقة وراء السماوات.. أرخت أهداب السنوات عليه أوشحة من نعاس كهولي عتيق.. أو هكذا بدا لنا.. روحه بين جنبيه تخفق بقوة لكن خانها الجسد أن تنتفض وترعد وتطير.. كأن شيئاً كان يخرج من روحه.. من صدره.. يستل سيفاً من أغوار قلبه يقطع به أعناق العذابات الطوال.
داهمت عينيه في تلك اللحظة صور شتى وأزمنة تمشى أمامه كمهرجانات الملوك وكعرائس المجد والكبرياء الذي عاشه، خارت قواه عندما حاول النهوض لكن قواه مثل الحسام الذي تساقط نصله نجمة في التراب!!
كان أخضر الجوانح والفؤاد.. لكن مناقير الأيام تأكل من روحه وتحسو من دمه.. حتى مصت كلاً من روحه ودمه وشرايينه وخلاياه.
كان أنضر من وردة في الصباح.. لكن بيدر الزمن الساهم يومض منذراً بالجدب والأفول.
«ث»
لا يمكن أن ترسم صورة للفيتوري وهو يتجاوز عتبة الخامسة والثمانين من العمر قبل أن ينطفئ وهج البارقة في روحه، تتحرك أصابعه المرتعشة الرطبة ككفي طفل، كأنه يبحث عن صرخته الأولى في مدينة الجنينة دار أندوكا في عام 1930م عندما ولد في حاضرة دار مساليت، كانت السماء يومئذٍ راعدة برعد قوي، والوديان «كجا» و«أزوم » يزمجران هناك.. تتلاطم المياه والزغاريد.. مثلما تتلاطم مياه الأطلسي، والشتاء المرخي سدوله يتسرب في جنبات المنزل الصامت في منطقة هرهورة بتمارا في العاصمة المغربية الرباط.
ظلت أعينه القلقة العميقة حتى وفاته أمس، تنسال منها التساؤلات.. شرق الشمس وغرب القمر، تبحث عن أغصان الليل السوداني الرامي ذؤاباته على وجهه والساكن في دمه وبين أضلاعه.. كأنه أراد أن يقول:
هل تبصر هذا الأفق المشمس في عيني؟
إني أتحدى عرشك المصبوغ بالمجد
من علقني في قفص الدمية؟
لا أملك إلا خوذة الريش
ولا أحمل إلا صدف البحر ولا أمضغ إلا بعض ما أبقى الضحايا الخالدون
في فمي..
ومثلما أردتني..
حلقت في غير سمائي
وتساقطت شهيد العصر
في غير ترابي ودمي!!
من خبأ الرغبة في الشوق.. أتدري؟
أنت تدري.. إن هذا الشوق مأساتي
انعكاسات مراياك على وجهي
قوس الشجر الغارق في الأصفر
لون العشب في العشب
التماثيل التي تعبق بالذكرى
ولا تمتلك إلا شهقة الذكرى
لماذا نملك الشيء قليلاً
ثم لا نملك إلا جسد الشيء!!
وتدري أنت أن الزمن الميت في الإنسان
إنسان يموت
زمن الدهشة والصحو الضبابي يموت
زمن يسكن فينا
ثم نمتد على الأرض
ويمتد على الأرض السكوت
«ج»
على امتدادات زمكانية لم ينقطع وجه الفيتوري الغامض.. من أن يحكي تاريخ جيل ووطن، عاش الرجل بواكير حياته حتى أنهى تعليمه الجامعي في أرض الكنانة بالإسكندرية والقاهرة، ثم عاد للسودان مع نهاية الخمسينيات، ليعمل في مجال الصحافة ويرأس تحرير مجلة «أم درمان» التي صارت فيما بعد مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح، وكتب في هذه الفترة حتى بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي أجمل قصائده ودواوين شعره، وبرز بإفريقياته ودواوينه «أغاني وأحزان افريقيا»، وطبقت شهرته الآفاق، ثم انتقل إلى ليبيا في عنفوان ثورتها، وله قصة مع ليبيا حيث عاش جده لوالده الذي اختطف في منتصف القرن التاسع عشر من دار مساليت بالسودان وأُخذ إلى مدينة زليطن الليبية وعاش هناك وأنجب ابنه رجب والد محمد الفيتوري الذي بدوره عاد للسودان بعد أن درس في مصر وعمل بها، وتزوج هناك وولد له ابنه في موطن آبائه وأجداده..
فمع الثورة الليبية بقيادة معمر القذافي وجد الفيتوري نفسه في لجة موج الشعارات العروبية الدفاقة والمد الثوري العنيف، وكان الحدث الشعري الأبرز في تلك الفترة هو مزيج التفاعلات السياسية العربية، وقد تحمل تبعاتها من خصومة مع نظام مايو الذي حرمه من جواز سفره وهويته، فتلقفته ليبيا القذافي وغنمته وسار في ركاب تلك الأحلام وطلب الحرية التي غنى بها ولها.. وسط الخراب العربي الكبير.. علا صوته الشعري وعرفته المنابر العربية.. والمهرجانات الشعرية وقابله الملوك والأمراء والرؤساء العرب، وازدحمت حوائط منزله بالجوائز والشهادات التقديرية، وأصبح هو نفسه ملك الشعر المتوج.
وكان علامة في سماء القريض العربي، بل شامة بين كتفي الفصاحة الشعرية، حسده من حسده واستعجب واستغرب فيه من تعجب لهذا السوداني القح الذي بزَّ أقرانه وأترابه، ولم تشهد الساحة الشعرية العربية خلال الستين عاماً الماضية شاعراً يطأ المنابر فيحيلها إلى لهب أحمر، وتمطر عليه الصالات والمهرجانات تصفيقاً وهتافاً مثل الفيتوري.
ولعل الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، كان أكثرهم دقةً حين قال عنه: «عندما يعتلي الفيتوري المنابر يتحول إلى غول إفريقي».. وظلت أزمنة الشعر واسئلته تجري خلفه وحواليه ومجده المرفرف الأجنحة يحلق به في كل الفضاء العربي العريض من خليجه إلى محيطه، حتى حط بين أضلاع جبال أطلس وشاطئ المحيط الأطلنطي، واختار أن يكون خريف العمر هناك.. ثم اختار له الله أن يدفن جسده المرهق المتعب هناك عند عتبات ضاحية هرارة قرب الرباط.
«ح»
عندما جلسنا إلى الفيتوري في داره قبل فترة قصيرة، وقد هزل الجسد وهده المرض، وصار مثل الراحل الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط حين قال وهو مريض: «أنا أحب الحياة وأريدها لكن خانني الجسد ..»، كنا ننظر إلى هذا الطود الشعري الضخم كيف يطبق براحتيه على أحلامه الكبرى وآماله وأشواقه في أمته العربية وفي مستقبل إفريقيا ووطنه السودان.. تجري النكبة في نهر عينيه البراقتين، تحس بأن قلبه يخفق ويعلو وجيبه، وجسده الهزيل ينتفض بقوة، وينبعث شعاع عرفاني من أغوار نفسه فيصيح «الله.. الله» وهو صامت لا يتكلم.. ينظر إلينا كأنه ينظر إلى وطن ممزق وعالم عربي محطم الفؤاد مقطع الأوصال، وكأن صورة وطن طالما حلم به يحاصرها الحريق ورماد الذكريات تذروها الرياح أمامه.
يداه راعشتان.. عيناه عميقتان حادتان.. شفتاه عن الكلام ممسكتان.. جسده الهزيل المريض يرفض أن يستسلم، يموت أو ينتصر كما قال عمر المختار عن جهاده.. وصدى كلماته يقول:
أيها البطل الشيخ..
مغتسلاً بماء الثمانين..
مختبئاً في تجليك..
انهكني السفر فيك..
أعرف أنك ضوء على زمني
هكذا أنت .. فامكث كما أنت..
هكذا كن خالداً في معانيك
متكئاً فوق مجد الثمانين
وابق مكانك.. ابق مكانك.. ابق مكانك
«خ»
الضوء ينسكب على الأشياء.. مثلما وهج العمر ينسكب على الفيتوري الذي وصف لقاءنا به صديقنا عبد الله خير الله حين رآه مثل نسر الشاعر عمر أبو ريشة.. لكن مثل الفيتوري يعيش خارج الزمن.. تظل قبسات الشعر الخالدة هي عمره الذي لم يعشه وعمره الذي عاشه.
رجل يعيش خريف عمره ثم يموت.. مريضاً بعيداً قصياً.. نائياً عن وطنه.. يوسد رأسه وسادة الذكريات المترامية الأطراف كبلده.. لعله في صمته المجيد يحلم ويظل يحلم وهو حلم لا ينتهي.. وقوس الليل وقوس النهار يحاصرانه حتى تنتقل روحه إلى بارئها وتقبض في يوم مبارك.. يوم جمعة بعد صلاتها.. وهو يقول:
قالت: وماذا بعد؟
في أيامنا، وأنت في أيامنا
يسقط قوس الليل معكوساً على قوس النهار
ونحن.. نحن البشر الفانين في هذا المدار
نجيء مغلولي الأيدي
ونذهب مغلولي اليدين
وقد نموت مطبقي الشفاه
عاجزين .. عاجزين مثل ما ترين!!
مثلما ترين!!


‫3 تعليقات

  1. له الرحمة والمغفرة
    ألحقوا الباقين
    الحقواوالكابلى ورجعوهو قبل ما يفوت الوقت خلوهو يقضى باقى عمرو محترم بين معجبيه وتقوم الدولة بى واجباً نحو فنان أعطى وما استبقى شيئا
    حتى الكابلى يتكفلوا بى الأمريكان عيب عليك يا بلد