عبد الجليل سليمان

الغناء والبكاء ورقصة البداية


لن نكتب في (هذه الحالة) إلاّ عن الغناء، فهو (الشفاء من الجوى بين الجوانح) مثل البكاء تماماً. و(تماماً) هذه رغم أنها زائدة لا يحق لأحد أن يحذفها أو يعلق عليها أو يسخر منها. وفي الغناء الثوري قيل “هادئاً كان أوان الموتٍ عادّياً تماما/ وتماماً كالذي يمشي بخطوٍ مطمئناً كي يناما”.

هذا غناء وليس عبثاً سياسياً وهرجاً برلمانياً، وتصريحات ومرجاً وحلاقيم مشروخة، ولأن الغناء يتخلله رقص، وإلا ليس هو كذلك، فتعالوا الآن نرقص (رقصة البدء).

يقول المُغني (إدريس ود أمير) بلغة (التقري): “مسكين إدريس ود أمير إتْ كدنو بادِيتو وإتْ كدنو لبدى إلا تِقْبأً كِريتو”، ولا يسألني أحداً عن الترجمة، خاصة من الذين يعدون الحقيبة (غناء) أهل السودان قاطبة دونما استثناء، رغم أن كلماتها بالنسبة لكثيرين منهم محض (رطانة ساي). لكنهم في السياق الثقافي الجمعي للأمم والشعوب السودانية اقتربوا منها وحالوا فهمها، فنجح بعضهم وعجر الآخر فانسحب ولكن بكل احترام، فهذا الضرب من غناء (بعض) السودانة لا يعبر عن (كلهم) لذلك من المخجل (فرضه) عليهم قسراً، فمن أحبه فله هذا الحب وأكثر، ومن لم، فلا إكراه في الغناء، بل ولا إكراه حتى في (الدين).

أقاليم وشعوب كثيرة في هذا البلد المترامي والشاسع، متعدد الثقافات والإيقاعات والرقصات واللغات و(الأمزجة) لم تسمع بأبي صلاح، ود الرضي، عتيق، ود البنا، ولا بعقد الجلاد وشرحبيل ونجاة غُرزة وأخواتها، وإن علون علواً كبيراً وبلغن قامة عائشة موسى (الفلاتية) ومنى الخير ورهطن من المغنيات البارعات.

وعليه، فإن كل من يدعي أن أغنيات الحقيبة وما أعقبها من موجات غناء متفق عليه اصطلاحاً بالغناء الحديث، وما هو كذلك في كثير من تبدياته وتمظهراته، لم تكن لتنتشر وتعم ويطغى ويستكبر (منتجوها) وعشاقها، لولا أن فُتِحَ لها الأثير والفضاء والمحابر دون سواها، فتعالت أكتافها بعد أن استقامت جذوعها بفعل الترويج والتكرار، رغم دائرية معظم ألحانها ورتابة إيقاعاتها.

السودان بلاد غنية بروائع الغناء، أتتك من شادن أو دوشكا، أم هبطت عليك من أقاصي الشمال أو ساحل البحر أو فيفافي دارفور أو هضاب الأنقسنا أو جبال النوبة، هناك وبعيداً عن أم درمان يطهى الغناء طهياً مُتبلاً بأنغام وإيقاعات مدهشة، ورقصات كأنها الخرافة. لكن لا أحد يلتفت، في واقع الأمر لا أحد يأبه، رغم أن (ناس) إسماعيل عبد المعين في قديم الزمان وسالف العصر والأوان (جابوا التم تم) من بلادٍ بعيدة، عبر (سائقي ومساعدية اللواري) تلك البلاد ليست هي كوستي بالتأكيد، وإنما (دلتا النيجر)، التي منها انتشر التم تم إلى أفريقيا كلها حتى وصل أقصى جنوبها الشرقي، حيث جزيرة موريشيص، والمغالطنا يعود إلى أشعار (سنغور) وإلى مذكرات (روجر باوتيث) عن عمال مزارع قصب السكر في (موريشيص) المجلوبين من غرب أفريقيا.