مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : عودة استعمار السودان


كان الحديث عن عودة الاستعمار الإنجليزي إلى السودان عشوائياً متناثراً هنا وهناك في جلسات الأُنس البريئة، ولكن، سرعان ما انتقل إلى منصات المثقفين والأكاديميين، ثم عمّت مناقشاته سماء الأسافير، في شكل هازل أحياناً، وجاد في أحايين كثيرة.

منذ عهد الاستعمار، لم يفلح الداعون إلى عزل الطائفية عن الحركة الوطنية في سعيهم، فقد غيّبت الأحزاب، الموجودة آنذاك، الانتماء للوطن لصالح الطائفة، حتى انغرس في أذهان البسطاء، الولاء لزعيم الطائفة كمعتقد، إلى درجة وصلت إلى اتخاذ أولئك الزعماء أولياء ووسطاء روحانيين، وأصبحت تُعرف الأحزاب السياسية تبعاً لتصنيفها الطائفي. ففي قولٍ شهير يُنسب لمحمود محمد طه، زعيم الحزب الجمهوري في أربعينيات القرن الماضي، محذّراً من التيه بعد الاستقلال: “قد يخرج الإنجليز غداً، ثم لا نجد أنفسنا أحراراً، ولا مستقلين، وإنما متخبطون في فوضى ما لها من قرار، استبدال الإنجليز بإنجليز في أسلاخ سوداني”.

أثبتت تجارب الحكم في السودان عشوائيتها، حتى وصل السودان إلى حالة التيه هذه، من دون أن يكون للشعب كلمة مسموعة، فقد كانت خطيئة المثقفين والمتنفذين في دوائر الحكم بعد الاستقلال، أنّهم سلّموا زمام أمرهم إلى الطوائف المتناحرة والمتنافسة، بدلاً عن الشعب.

لم يكن من السهل الجهر بالقول إنّ السودان دولة فاشلة. ولكن، بالنظر إلى تصاعد الثورات المكبوتة للهامش الآن، والتي أسست لها الجهوية والطائفية منذ الاستقلال، نجد أنّ السودان لم ينجح لا في إطار التنمية، ولا في بناء المؤسسات والديمقراطية. وها هي حقبة الحركة الوطنية، بقضّها وقضيضها، تشكّل حضوراً في الراهن السياسي السوداني، والنخبة المثقفة والمتعلمة ما زالت كما كانت منذ أكثر من نصف قرنٍ في حالة اغتراب عن الذات، وبُعدٍ عن الهمّ والواقع السوداني العام. وعلى الرغم من تبنيها كثيراً من شعارات النضال، إلّا أنّها لا ترى التغيير بالثورة، إلّا شريعة العامة والغوغاء، ولكل هذا كانت ثورتا أكتوبر وأبريل شعبيتين، لا نصيب منهما للنخبة على مستوى الفعل، ولكن آثرت أن تقطف ثمارهما، وتتفيأ بها مجالس الجدل.

من بين الأصوات الخافتة لأكاديميين ومثقفين سودانيين، تعالى صوت أستاذة للتاريخ في جامعة سودانية منادية بعودة الاستعمار، مؤكدةً أنّ أكبر خطيئة في تاريخ السودان الحديث نيله الاستقلال السياسي، وعقدت مقارنة حال البلد قبل الاستقلال وبعده. أعلنت الأستاذة الجامعية عن تشكيل تنظيم سياسي يطالب بعودة الاستعمار إلى السودان، أطلقت عليه اسم (حركة المطالبة بانتداب دولي)، ولكن، سرعان ما وجدت نفسها في مصحة للأمراض النفسية والعصبية، واتهمت السلطات السودانية بإيداعها هناك. ولم يستطع الشارع قول شيء سوى إنّها هي العاقلة الوحيدة، وتركتها إلى مصيرٍ يُقال إنّه انتهى بموتها في ظروف غامضة.

استندت الأستاذة الجامعية في المناداة بضرورة عودة الاستعمار إلى أنّ الإنجليز قدموا خدمات جليلة للسودان، فقد أوجدوا نظاماً للتنمية والتعليم الذي كان يضاهي التعليم في أوروبا ونظام صحة لم يكن موجوداً في دول أفريقية كثيرة. وقامت الراهبات الإنجليزيات بتعليم وتدريب الممرضات والقابلات السودانيات، إجراء عمليات الولادة المنزلية، لأنّ نساء سودانيات كثيرات، كن يمتن في أثناء العملية، بسبب المضاعفات الناتجة عن العادات والتقاليد المرتبطة بظاهرة الخفاض الفرعوني. وكانت ترى أنّ المهدية، على العكس من المستعمر، أهانت المواطن السوداني وتعاملت معه بعنصرية وعنجهية، كما أدخلت البلد في حقبة من الدروشة والغيبيات الدينية والدماء والفقر والجوع والاحتقار، حتى وصل التوازن العرقي في السودان إلى الاختلال.
“خطيئة المثقفين والمتنفذين في دوائر الحكم بعد الاستقلال، أنّهم سلّموا زمام أمرهم إلى الطوائف المتناحرة والمتنافسة، بدلاً عن الشعب”

وفي طلبها الوصاية الدولية، نعتت النخبة السودانية في الحكومة والمعارضة، على السواء، بالفساد والسقوط الوطني والفكري، مؤكدة أنّ الشعب ما زال يراقب لعبة تبادل الأدوار بين الحكومة والمعارضة ونظام الاستقطاب والولاء. وقالت إنّ هناك من تأكل خيولهم الزبيب، وهم بلا عمل أو مصدر دخل معروف، بينما يموت نصف الشعب جوعاً في الغابات والصحاري وأرصفة المدن الإسمنتية، فإنّها لا ترى عيباً في إعلان فشل الدولة السودانية للمجتمع الدولي وطلب فرض وصايته.

ولم تكن الأستاذة الجامعية الوحيدة في دعوتها هذه، فقد نادى أكاديمي أيضاً بعودة الانتداب التركي على السودان، متكئاً على نظرية “الاستعمار الحميد” للمفكر والكاتب الأفريقي، البروفيسور علي المزروعي، أستاذ العلوم الإنسانية في الجامعات الأميركية، لحلّ مشكلات القارة الأفريقية.

ووسط هذا الحراك الفكري والجدل حول وجود الدولة نفسها، نجد أنّ النخبة السودانية وصلت إلى حالة من التغييب والانسحاب من الحياة العامة. فجمودها المحيّر وسط المتغيرات السياسية العنيفة، وبُعدها المثير للقلق وسط تخلّق سياق محتمل لحل ديمقراطي، لم يكن سوى نتيجة حتمية للرضوخ للنظام الحاكم الذي أجبرها على تجرّع مسرحية ديمقراطية مرتين خلال خمس سنوات.

يحدث كل هذا التغيير الدراماتيكي، والسودان يشهد لحظة سقوطه دولة وطنية مستقلة، بعد فشلها في صياغة مشروع تعاقدي يؤسس لعلاقة الدولة مع المجتمع. عجزت الدولة طوال فترة استقلالها عن حل مشكلاتها الداخلية، ومواجهة تحدياتها الخارجية، أو حتى التغيير بثورة شعبية حقيقية، بينما فضّل شعبها العيش أسرى في وطن حر، بدلاً من العيش أحراراً في وطنٍ أسير.