الطيب مصطفى

رحم الله الشيخ أبو زيد


جرّبت أنواعاً من الحزن.. حزن فقد الوالد.. الوالدة.. الابن.. الأخت.. الإخوان.. الأصدقاء.. بل الحزن على حال أمة الإسلام في كل مكان وعلى أحوال السودان، لكن حزني على شيخ أبوزيد له مذاق خاص.. إنها الغصة التي تملأ الحلق لفراق رمز ربما كان الأكبر في السودان بين رموز دعوة الرسل والأنبياء، ألا وهي دعوة التوحيد وما أدراك ما التوحيد؟.

إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نذر حياته، والرسل من قبله لمحاربة الشرك الذي نراه يتبرج اليوم بأشكال شتى بعد أن تمددت حركته في الحياة بما لا يُحصى من المظاهر والأشكال، فإن الشيخ أبو زيد قد تفرَّغ لهذه المهمة، وظل يصدع بها طوال عمره المليء بالبذل والعطاء في سبيل الله.

في آخر لقاء جمعني به في (الصيحة) بصحبة ابنه عبد الملك قبل نحو شهر ونصف، بعد أن ظنَّ بي الخير أنني قد أفلح في أن أمكّنه من رؤية ابنه القابع في سجن كوبر منذ سنوات وهو مكبل اليدين والقدمين في قضية الأمريكي غرانفيلد، كان والله بذات السماحة واللطافة والاستعداد للم شمل جماعته تحت إمرة شيخ المجموعة الأخرى من الجماعة د. إسماعيل عثمان الذي خاطبه في حواره مع الصيحة (أنت رئيس علي ولابد أن تندمج الجماعتان)، كما قال الشيخ أبوزيد (مازالت أيادي ممدودة للشيخ إسماعيل وما زلنا ساعين للوحدة).

وننشر في عدد اليوم الحوار الذي أجري مع الرجل وكان آخر حوار له مع الصحافة السودانية.

إن أكثر ما يدلل على أن الشيخ ينتهج نهجاً وسطياً، قيام الخليفي ومجموعته المتطرفة عام 1994م بالهجوم على مسجده، وقتل 25 من المصلين بينما كانوا يؤدون صلاة الجمعة.

الشيخ أبو زيد بالرغم من موقفه المبدئي من القباب، إلا أنه لم يهدمها كما يفعل المتنطعون الذين تسببوا في كثير من التشاحن مع الطرق الصوفية خلال السنوات الماضية، وليس أدل على ذلك من إجابته عن أحد الأسئلة بقوله: إنه إذا دُعي من قبل السلطات فإنه مستعد للإسهام في هدم القباب التي تحددها السلطات المختصة، كما حدث في إحدى المرات، ولكنه لم ولن يبادر بفعل ذلك من تلقاء نفسه، وكذلك فإن موقفه المناوئ لداعش كان حاداً للغاية واستنكر ما يأتون من تصرفات وحشية في حق الأسرى كما تبيَّن من الحوار المنشور.

أحكي لكم المزيد عن سهولة الرجل وسماحته فقد دعانا بروف محمد عثمان صالح لاجتماع في هيئة علماء السودان قبل نحو ست سنوات للتشاور حول أمر مهم، فسألته حرصاً مني على لم شمل علماء المسلمين وجماعاتهم المختلفة عما إذا كان قد دعا الشيخ أبو زيد، فأجاب بالنفي ورحب ترحيباً حاراً بحضوره إن وافق على المشاركة، ولم يتردد الشيخ أبو زيد لحظة في قبول الدعوة والحضور لمقر هيئة علماء السودان بعد قطيعة لم يكن هو سببها، وكان نجم ذلك الاجتماع بصوته المدوي وحضوره الطاغي وتأثيره الضخم.

هكذا كان الرجل نجماً لامعاً أينما حل، ولم يكن عمره المتقدم وقد تجاوز التسعين يحول بينه وبين الاستجابة لكل من يأتيه طالباً مشاركته في أي محفل.

إنني لأطلب من تلاميذه أن يتحلوا بنفس الروح السمحة التي عُرف بها، وأن يصيروا إلى توحيد الجماعة خدمة للدعوة، بعيداً عن الأجندة السياسية وتأثيراتها السالبة على وحدة العلماء بالرغم من أهمية التصدي لكل شأن من شؤون الحياة سياسة واقتصادًا واجتماعًا وغير ذلك.

زرته في منزله بالثورة قبل نحو عامين فرأيت البساطة وضيق الحال في البيت المكتظ بساكنيه بينما تجد كثيراً من الشباب المنتسبين للحركات الإسلامية يركضون ركض الوحوش في طلب لعاعة الدنيا ويقيمون العمارات الفخيمة والأموال القارونية.. وقتها طغت عليّ مشاعر شتى أشعرتني بضآلتي بين يدي ذلك الرجل الكبير الزاهد في متاع الدنيا وزينتها.

من المحزن أن الشيخ لم يسعد بتحقيق أمنيته بإطلاق سراح ابنه عبد الرؤوف ،وفشلت محاولات تمكين الابن من زيارة والده في المستشفى حتى وفاته،وإن كانت جهود خيّرة من د.عصام البشير والأستاذ محمد الشيخ مدني مكنت الابن من المشاركة في مواراة والده الثرى ثم الرجوع إلى سجنه الكئيب، حيث كان مقيد اليدين خلال تشييع والده،علما بأن عبد الرؤوف من مواليد 1990 وكان عمره أقل من عشرين عاما عندما وقع حادث غرانفيلد.

كم أنا حزين أن يغادرنا الشيخ أبو زيد الرجل الذي تُستَمطَر به السماء ويتركنا ونحن في حال بائس من التنازع والتطاحن والاحتقان السياسي والتمزق الإثني والقبلي والحرب الضروس والتهديد والوعيد الذي يملأ حياتنا بؤساً ومستقبلنا خوفاً.

إن واجب تلاميذ الشيخ من أمثال د. محمد الأمين إسماعيل وعبد الكريم محمد عبد الكريم نائب رئيس الجماعة وغيرهما أن يسيروا في ذات نهج الشيخ الداعي إلى توحيد الجماعات الإسلامية بدءاً من السلفيين بمن فيهم جمعية الكتاب والسنة والرابطة الشرعية ثم الاتجاه إلى إقامة مشتركات مع بقية الجماعات الإسلامية حفاظاً على هذا الدين وهذا الوطن من أن تغزوه خيول المغول الجدد من القوى العنصرية والمتمردة واليسار أو العلمانيين، فكل هؤلاء يعملون على استئصال شأفة هذا الدين من بلادنا.

رحم الله الشيخ أبو زيد وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.


تعليق واحد

  1. لن تخبوا نار التوحيد في السودان ان شاء الله تعالي،
    قدوتنا الأنبياء ومن سار علي نهجهم والشيخ الراحل منهم ،
    فرج الله علي الجميع .