تحقيقات وتقارير

“العميد” “عشرةٌ كاملة”.. كيف تمضي الدبلوماسية السودانية مع مهندس سياسة الانفتاح والتطبيع


ح

الة من الصمت تعتري الكثير من المسؤولين هذه الأيام، خاصة الذين يشغلون مناصب رفيعة. التفسير الأمثل للحالة يكمن في أن البلاد مقبلة على مرحلة جديدة، عقب إعلان نتيجة الانتخابات. مؤكد أن الشهر المقبل سيكون حافلا بالقضايا بعد أداء الرئيس المنتخب القسم، وتشكيل حكومته المرتقبة. ربما استمر بعضهم في مناصبهم، ولربما غادر آخرون بطبيعة الحال و(الأيام دول). (اليوم التالي) تحاول عبر هذه المساحة فتح ملف تقييم أداء الوزراء، ورصد إنجازاتهم وإخفاقاتهم طيلة فترة تقلدهم للمناصب الرفيعة. بوابة الدبلوماسية السودانية كانت المحطة التي توقفنا عندها.

1

عميد وزراء الخارجية

في الثاني من يونيو المقبل، يؤدي رئيس الجمهورية القسم في مفتتح دورة رئاسية جديدة، بعد فوزه في الانتخابات بنسبة (94%)، ليحل بعدها ميقات تشكيل الحكومة الجديدة، وبهذا يكون علي كرتي قد قضى في وزارة الخارجية عشر سنوات منها ستٌّ وزيرَ دولة، وأربعٌ وزيراً للخارجية، وهو ما يجعله ربما أطول وزراء الخارجية عمراً في تاريخ السودان، في المنصبين الوزاريين.

2

ساعد على المجداف

أعقاب تسنمه دفة الخارجية كانت أمواج الهجوم العاتية تغمر جنبات مكتبه، لكنه لم يبال، فقد انفتحت عليه جبهة المعارضة التي دأبت على تصنيفه في خانة (صقور الإنقاذ)، وما فتئ مناوئوه يرمونه بقصور قدراته وخفتها في ميزان المهمة الدبلوماسية، مستشهدين بتاريخه في مؤسسة الدفاع الشعبي، وهو استدعاء يروم قائلوه أن ثقافة المواجهة وقوة السلاح هي الغالبة في فكر الرجل لا الحلول الدبلوماسية.

إبانها أيضاً –أي عندما كان يتحسس مقعده في الوزارة- كانت مراكز قوى كبيرة تهيمن على مفاصل وملفات العمل الخارجي، فالحركة الشعبية كانت تشغل منصب الوزير، فاجتهد لإرجاع الملفات إلى اختصاص الوزارة، مثل ملف العلاقات مع الصين الذي كانت تديره وزارة النفط، والعلاقات مع أمريكا الذي كان يديره جهاز قوش، وغيرها. كرتي أفلح لحد كبير في المهمة وتمكن من إعادة كل ملفات العمل الخارجي إلى وزارته في شارع النيل.

كرتي طاردته في الأثناء الكثير من الاتهامات بشأن أعماله الخاصة، حيث تلقفت الوسائط الإلكترونية الكثير من الأنباء حوله في أوقات سابقة من شاكلة أنه امتلك فندق قصر الصداقة.

عرضنا الحديث عاليه مع بعض الأقوال الأخرى على أحد أصدقاء كرتي ممن زاملوه في كلية الحقوق جامعة الخرطوم فقال: كرتي من أنزه السياسيين إخلاصا وتجردا وعفة عن المال العام، وهو حتى الآن لا يستخدم سيارة الدولة المخصصة له، بل يستعمل سيارته الخاصة كما أنه لا يحتفظ بحرس خاص كما يفعل الآخرون، ويقود سيارته أحيانا بنفسه، ولا توجد حاشية تصحبه في عمله بل يعمل بهدوء واحترام وسرية، كما ذكرت مصادر أن كثيرا من السائقين يرفضون نقلهم إلى سفارات خارجية ويفضلون البقاء للعمل معه رغم أنهم يصرفون مرتبات أفضل في الخارج” حسبما يقول محدثنا في شهادته.

3

قريب من الرئيس.. بعيد عن الحزب

يصف كثير من المراقبين علي كرتي بأنه ظل بعيداً عن الحزب ولم يبد رغبة في دخول مكتبه القيادي، كما أنه لم يحسب يوما على أي من مراكز القوى. لكنه في الأثناء يظل قريبا من الرئيس ومصدر ثقته الدائم، وقد مكنه هذا الوضع من تحقيق إنجازات كبيرة، حيث قدم له البشير دعما غير محدود، استطاع عبره أن يمضي قدما في خطته التي يصح أن نسميها (الانفتاح الدبلوماسي).

4

سري للغاية

سفير مخضرم بالمعاش قال إن أبرز عيوب في العمل هي السرية الشديدة، فلا يكاد يعرف السفراء والدبلوماسيون بقرارات الوزير إلا بعد إعلانها وقفل باب إخطار السفراء بمناطق ترشيحهم، فلا يعرف أحد أين تم ترشيحه. بالنسبة لكرتي فثمة مبررات موضوعية لهذه السرية، إذ كشف دبلوماسي عمل معه أن منطقه في ذلك حماية المؤسسة والسفراء المرشحين من الشائعات المضرة، وأشد ما يزعجه هو تسرب أخبار الوزارة إلى الصحف، خاصة كشوفات النقل والحركة وبرنامج عمله الخارجي. سفير مخضرم آخر قال: “ما تنشره الصحافة عن أخبار وزارة الخارجية لا يوجد ما يضاهيه في العالم لأن الخارجية تحظى دائماً بالهيبة وكتمان الأسرار في ما يتصل بعلاقات السودان الخارجية، لكن الصحافة تتعامل مع أخبارها مثل الوزارات الخدمية كالصحة والتربية”، حسب تعبيره.

بالمحصلة ينقسم الناس حول منهج السرية المتبع من قبل علي كرتي إلى فريقين، أحدهما يؤيد أسلوبه وطريقته في حفظ أسرار العمل والمؤسسة، وفريق يرى أنها سرية تزيد عن الحد المعقول. وكيل سابق بالخارجية، قال إنه في ظل وسائل التواصل الاجتماعي وانتقال المعلومات بسرعة البرق فإن أُسلوب علي كرتي في السرية مطلوب وضروري ويجب تقنينه باللوائح والقوانين. فيما يقول آخرون أن كرتي لم يجامل في اختيار الكوادر الوسيطة التي تم قبولها في الخارجية في عهده رغم بعض التفلتات، وهم من أفضل الكوادر الموجودة التي جاءت بها لجنة الاختيار.

 

5

“الشخصي”

بعيداً عن السرية -وقريباً منها إلى حد ما- يبقى كرتي بالنسبة للبعض هو “النبيل، وذو شخصية تجمع بين حزم رجل الدولة وكرم شيخ العرب”، حسبما يصفه وكيل الخارجية السابق عبدالله الأزرق. فيما يقول عنه السفير عبدالمحمود عبدالحليم الذي شغل مناصب سفير في نيويورك وأديس أبابا وعدة دول أخرى وأخيراً سفير السودان لدى مصر بأنه “شهم وكريم وود بلد أصيل”.

صديق آخر لكرتي لأربعين عاماً، اتصلت به الصحيفة فقال إن علي كرتي يحقق ما يكلف به، وإن استدعى ذلك التضحية بكل ما يملك، وإن خصلته التي يجمع عليها الكل هي كرمه الفياض وتشهد له أعمال خيرية كثيرة بذلها للناس والمساجد والخدمات وعلاج المرضى لكنه ربما يغضب حال الكشف عنها. وهو كذلك كثير الوفاء لأصدقائه، بحسب دبلوماسي عمل معه في مكتبه، فالكثير من زواره هم ممن زاملوه من قبل في وزارة العدل أو منسوبي الدفاع الشعبي والهيئات الخيرية الأخرى، يلجأون إليه لمساعدتهم وحل مشاكلهم.

6

“العملي”

خاض علي كرتي معارك داخلية مشهودة ضد بعض المؤسسات القوية الأخرى، حتى لا تتغول على ملفات وزارته، وتلك التي تتجاوز التنسيق معه. وأضابير الصحافة السودانية ماوالت تحتفظ في هذا الصدد تصريحاته المشهورة أثناء رسو السفن العسكرية الإيرانية.

جوهر سياسات علي كرتي كانت تمضي للانفتاح مع دول الخليج، واستطاع أن يقنع قيادة الدولة أن ذلك يتطلب ثمناً سياسياً يجب دفعه في العلاقة مع طهران، رغم أنها طبيعية حسب توصيف مسؤولي الدولة، لكن دول الخليج تشكك في هذه العلاقة.

ثمة دوائر أخرى لم تكن تدعم خطه ومساره وكانت ترى أن العلاقة مع طهران، رغم عدم وجود خصوصية تميزها، كما ينافح البعض، إلا أنها أبرز مراكز مقاومة الهيمنة الغربية مما يجعلها تقف مع السودان في خندق واحد، خاصة وأن السودان ما يزال تحت طائلة العقوبات الأمريكية.

وأكملت رئاسة الجمهورية إجازة نهجه الجديد وتبنت مقترحاته مما أدى إلى تدشين مسار التطبيع الأخير حيث تمخضت عنه مؤخراً زيارة رئيس الجمهورية الشهيرة إلى الرياض ومشاركة الخرطوم في “عاصفة الحزم”.

7

الحوار مع أمريكا

إبان تقلد علي كرتي لمنصبه أيضاً ظل حريصاً على مواصلة الحوار مع أمريكا، وأحرز اختراقات سجلتها الصحافة الأمريكية. إذ قالت مجلة التايم إن علي كرتي خاطب عدداً من المنابر في فلادلفيا ومدن أخرى، بمشاركة شخصيات مؤثرة في الكونجرس، وذلك عن طريق منظمات وجمعيات صديقة للسودان، مما يعني أنه لا يعمل فقط بوسائل الدبلوماسية التقليدية، والطرق الرسمية، بل يستعين بوسائل أخرى للتواصل مع متخذي القرار الأمريكي. كما استطاع الرجل كسر الجمود نسبيا وفتح باباً للحوار وذلك بزيارة إبراهيم غندور مساعد رئيس الجمهورية إلى أمريكا في فبراير الماضي، وتعتبر تلك أبرز زيارة لمسؤول سوداني رفيع. كما التقى كرتي أثناء زيارته إلى واشنطون في ذات الشهر أعضاء من الكونجرس الأمريكي المعادين للسودان، وشرح لهم وجهة نظر بلاده تجاه العديد من القضايا الداخلية، كما كانت هناك زيارات عدة لوزير المالية ومحافظ بنك السودان، والتقيا أيضا لأول مرة بأعضاء من الكونجرس.

وفي ما يتعلق بمنع الخارجية منح المبعوث الأمريكي تأشيرة دخول طيلة الفترة الماضية لزيارة السودان قال محللون سياسيون إن علي كرتي حاول أن يوظف المنع لصالح دفع العلاقات للأمام، فكثف من زياراته إلى واشنطن ونيويورك، وتشير المعلومات إلى وجود تفاهم حول استئناف تبادل الزيارات، وهو ما كشفه لنا المبعوث الخاص في واشنطون، أثناء زيارة وفد صحفي سوداني إلى العاصمة الأمريكية مؤخراً بقوله: “إن التفاهمات الجارية ستقود إلى استئناف تبادل الزيارات قريباً”.

8

الانفتاح نحو أوروبا

كانت أوروبا عند القيادة السياسية للإنقاذ تمثل الوجه الآخر للغطرسة الأمريكية ولهذا السبب تم التركيز على إصلاح العلاقة مع أمريكا وإهمال أوروبا، لكن علي كرتي اتبع سياسة مغايرة، إذ قاد جهودا مكثفة للتواصل مع بعض العواصم الأوروبية في فرنسا وألمانيا والنمسا والنرويج وإيطاليا، ونتيجة لذلك تم عقد سلسلة مؤتمرات اقتصادية في أوروبا وتبنت ألمانيا والنمسا في فترات مختلفة جهودا للتوسط ودعم عملية السلام. ولكن ظلت العقبة الكبيرة رغم جهود علي كرتي هي بريطانيا، ولاحظنا أثناء إعداد هذه المادة أن زيارات كرتي إلى بريطانيا محدودة إن لم تكن معدومة مما يعني أن العلاقات مع بريطانيا تراوح مكانها. الوكيل عبدالله الأزرق في حديث سابق مع (اليوم التالي) إن كرتي استطاع أن يزيد عدد السفارات في الخارج؛ خاصة في أفريقيا، وكذلك في أوروبا وآسيا.

9

موسكو والجنائية

يجمع بعض المراقبين على أن تجميد ملف المحكمة الجنائية يعتبر أبرز إنجازات علي كرتي، إذ استطاع السودان أن يغلق باب أي تحركات في مجلس الأمن بدعم الأصدقاء في موسكو وبكين، ورغم أن الملف ما يزال يراوح مكانه إلا أن إمكانية تحريكه باتت محدودة خاصة بعد قرارات الاتحاد الأفريقي على مستوى القمة، وقد حاولت المحكمة تسوية ملف الرئيس الكيني بطريقة “تآمرية”، حسبما يصف المسألة المراقبون، والإبقاء على ملف السودان مفتوحا.

الإنجاز الآخر الذي تم بهدوء هو تحقيق علاقة إستراتيجية مع روسيا كشف عنها وزير الخارجية لافروف أثناء زيارته إلى الخرطوم للمشاركة في المنتدى العربي الروسي وتم هذا الإنجاز بعد تصويت السودان في الأمم المتحدة لصالح روسيا في القضية الأوكرانية.

10

على رصيف الانتظار

أعلن علي كرتي من قبل عن زهده في الاستمرار بالمنصب كما رفض إعادة الترشح في دائرته بحجر العسل، وفي ظل ما يرشح الآن عن تغييرات كبيرة في تشكيلة الحكومة يرجح بعض المراقبين أن يختار رئيس الجمهورية علي كرتي لمواصلة عمله كوزير للخارجية لإكمال ما بدأه من تطبيع العلاقات مع دول الخليج ومواصلة الحوار مع الإدارة الأمريكية، فيما يرى آخرون أن التغيير إذا جاء شاملا ربما يقود إلى تغيير طاقم الخارجية. لكن مصدرا عليما قال “لا يوجد بديل مقنع لكرتي من حيث الرؤية للعلاقات الخارجية”، فيما تمضي بعض التكهنات إلى القول بأن إبراهيم غندور، ومعتز موسى، والدرديري محمد أحمد يقبعون على رصيف الانتظار، ليستلم أحدهم راية كرتي.

اليوم التالي


تعليق واحد

  1. نسأل الله أت يستمر على كرتى وزيرا لوزارة الخارجية ….. لقد كان مثالا بارعا لوزارة الخارجية …. انفتاح خارجى ….محاربة التصريحات الخاصة بالخارجية والتى تصدر من جهات مختلفة بأجهزة الدولة مما أعاق العلاقات الخارجية للسودان …. غير محتاج ماديا حتى يتهم بحيازة أى أموال من الدولة بطريقة غير مشروعة ….. بساطته وأعترافه بجميل الآخرين ذلك وظيفته بالديوان الملكى السعودى سابقا عن طريق زميله الاستاذ/ محمد الحسن …. عموما كان ناجحا بالخارجية ….. والأمر للرئاسة …