تحقيقات وتقارير

هل لازالت لـ”العتباني” (قدرة الرقص على حافة الهاوية)؟


وانتخابات 2010 يشتد أوارها، يختار رئيس المؤتمر الوطني رئيس الجمهورية المشير “البشير” أن يطلق واحدة من أقوى حملات الحزب الانتخابية، انطلاقاً  من دائرة بحري الكبرى لتأكيد مكانة  ذلك القيادي  الذي انتدبه الحزب لهذه الدائرة، وهو واحد من أبرز فلذات كبده حينها، وأحد القيادات الأشد قرباً من الرئيس “البشير”. ومن غير الدكتور “غازي صلاح الدين العتباني”؟ وبعد أن اعتلى”العتباني” المنصة وبكلماته المضبوطة وأسلوبه الدقيق والمبين أطلق عبارته الشهيرة (نحن حزبٌ  يجيد الرقص على حافة الهاوية). الآن بعد ما يزيد عن خمس سنوات، والرجل شديد بياض الوجه والثياب يغدو خصماً لإخوته القدامى، وفي ذكرى مرور عام على تأسيس حزبه الجديد يكابد”العتباني” رهق وخطر الرقص على حافة الهاوية، وهو يصارع لبناء حزب وفق ما يؤمن به ـ ومن معه  ـ من رؤى الإصلاح التي فاصل لأجلها حزبه السابق وخرج مغاضباً. وبين يدي ذكرى التأسيس طرح الرجل أمام مجلس شورى الحزب رؤى نقدية شفافة لأداء الحزب، تم بسطها للإعلام في منهج نادر حدوثه بين القوى السياسية .
خطاب الحزب وجدل المرجعية
وكأنها قد اصطبغت بصبغة زعيمها وولعه بالأفكار، طرحت (حركة الإصلاح الآن) لأول مخاضها خطاباً فكرياً شرح الأسس والمبادئ والأفكار التي تأسست عليها، لكن د.”غازي” وفي ورقته الموسومة بـ(تجربة التأسيس) المبسوطة  أمام مجلس الشورى الذي اختتم أعماله أمس الأول (السبت)،  أقر بأنه (خطاب فوقي يتودد إلى الضمير الصفوي)، بجنب أنه جاء خطاباً معزولاً ومتعالياً عن المطالب المحركة للجماهير بإهماله قضايا الهامش، والتي أقر “غازي” بمركزيتها وتأثيرها السياسي الذي يفوق تأثير الأطروحات المذهبية. ولكن أروقة المؤتمر شهدت جدلاً بين المؤتمرين حول مرجعية الحزب الفكرية، بالنظر إلى أن غالب عضويته لاسيما قيادة صفه الأول تنحدر من حاضنة واحدة هي الحركة الإسلامية، مضافة إلى عضوية أخرى من مشارب مختلفة، إلا أن د.”غازي” أكد خلال المؤتمر الصحفي الذي تلا ختام مؤتمر الشورى  أن الحزب لا يعاني أزمة مرجعية، لافتاً إلى أن دور الإسلام في الحياة العامة قضية مركزية لا يمكن تجاوزها، لكنه أشار أن الحركة معنية بتبيان فهمها لقضايا الإسلام دون حصره في معركة شعارات ومناكفات، ومعركة صفرية مع القوى العلمانية، معلناً أن الحزب مفتوح لكل السودانيين دون شرط ماعدا شرط الاستقامة والقناعة بمطلوبات الحزب.وقال: (ليس ضرورياً أن تسمي نفسك إسلامياً أو علمانياً).
إخفاق الجهاز التنفيذي للحزب
بصراحة بائنة يعترف “العتباني” بفشل الجهاز التنفيذي للحركة في تحويل مكتسباتها السياسية المتمثلة في خلق علاقات ممتدة ومثمرة،  مع غالب القوى السياسية في الساحة داخلياً وخارجياً وبالأخص مع القوى المشاركة في الحوار الوطني دون استثناء المقاطعة، وإسهامها في وضع الأجندة السياسية والأساسية للحوار، الأمر الذي مكنها من خلق علاقات عملية مع الفريق الأفريقي عالي المستوى والقوى الإقليمية والدولية، يؤكد الاعتراف بوضوح إخفاق جهاز الحزب التنفيذي في تحويل هذه المكتسبات السياسية إلى مكتسبات بشرية وتنظيمية. وتنبه الورقة إلى أن الفشل التنظيمي لازم الحزب طيلة العام المنصرم ما جعله أهم بنود الإصلاح في المرحلة المقبلة، لكن بالمقابل يبدو جلياً أن هذا الإنجاز خاصة المتعلق بالعلاقة مع الفريق الأفريقي عالي المستوى الذي يقوده “ثابو أمبيكي”، بجانب اتفاق “أديس أبابا”، لدكتور “غازي” وشخصيته وخبراته الدور الأساسي إن لم يكن الوحيد، وليس حركة الإصلاح الآن كمؤسسات، فمعلوم العلاقة الوثيقة لدرجة الصداقة بين “غازي” و”أمبيكي”، الأمر الذي يجعل حتى هذا الإنجاز الأكبر في عمر الحركة، مربوطاً بشخص رئيسها دون استصحاب فاعلية الحركة وأثرها السياسي على الساحة .
رأس الحزب وجسد التيار
التوصيف أعلاه لا يشير إلى مخلوق خرافي أو مسخ مشوه لا ينتظم أمره على بنية واحدة، بل هو نوع من الموازنة  بين اتجاهين من  جدل ساد بين مكونات (حركة الإصلاح  الآن)  حول اعتماد صيغة التيار، أو صيغة الحزب، وبعد دفاع مناصري كل اتجاه عن فكرتهم وإيراد سلبيات وإيجابيات كلا الخيارين،  خلصت الحركة إلى اعتماد صيغة توفيقية تجمع بين رأس أو قيادة تتسم بسمات الحزب الأقدر على ضبط الأفعال والأقوال ومواجهة ما يشنه عليه أعداؤه من حروب، وبين جسد يتمتع بصفات ومقومات (التيار)  الأقدر بالمقابل على حشد طاقات المقاومة في المجتمع، وعلى امتلاك قدرة أكبر على المناورة .
أزمة المال والشفافية
قد يكون الحديث عن المال العام وما طال د.”غازي” من اتهامات وجهها له غريمه الجديد الفريق “محمد بشير سليمان” قبل انسلاخه من الحزب، من أقسى التجارب التي مر بها، لقدحها في أهم رأس مال يعتمد عليه “العتباني” وهي نظافة اليد ومجانبة الولوغ في المال العام، لذلك فإن الورقة وحديث الرجل في المؤتمر الصحفي كان فيه تركيز بائن على إبداء القدر اللا متناهي من الشفافية في ملف المال،  بتأكيده على أن المؤتمر ناقش ميزانية الحزب للعام المنصرم والخاضعة لمراجعة قانونية، والتي وصفها بالمتواضعة وهي لم  تتجاوز (650) ألف جنيه، بجانب إجازة ميزانية العام الجديد البالغة (1.600.000) جنيه.
الحركة واليأس من حوار (الوثبة)
معلوم أن حركة الإصلاح الآن كانت من أشد المتحمسين لحوار الوثبة الشهير الذي أطلقه الرئيس “البشير” في يناير من العام الماضي، بل وشاركت في إعداد جميع  وثائقه المرجعية المتمثلة  في خارطة الطريق، واتفاق “أديس أبابا” الذي وقعت عليه الجبهة الثورية وحزب الأمة القومي، إلا أنها الآن أضحت من أعنف المنتقدين لهذا الحوار لدرجة تجميد مشاركتها فيه. وهو ما دفع د.”غازي” للاستفاضة في الإجابة حول سؤال عن موقف الحركة من الحوار وإمكانية العودة له، واصفاً إياه بأنه  مجرد اختلاس لاسم الحوار، مؤكداً بأن الحوار الدائر حالياً لا يتسم بالمصداقية رغم مضي عام ونصف من انطلاقته، نافياً بشدة إمكانية وصوله لنهايات تهم الشعب السوداني، بل مضى للتأكيد أنه سينتهي إلى صفقات ثنائية. ولفت إلى ضرورة أن يكون الحوار بيد كل القوى المتحاورة وليس بيد المؤتمر الوطني، وأن يوضع له سقف زمني. وقال: (نحن لسنا على استعداد للمشاركة في حوار يمتد أربع سنوات لحين قيام الانتخابات المقبلة).
استشراف المستقبل
(الأفكار لا تغني إذا انعدمت المصداقية)، هكذا قررت الورقة النقدية التي أجازها مجلس شورى الحركة، الأمر الذي مهد لطرح فكرة التحالف بين الأفكار والأخلاق، للمزج بين نفوذ الأفكار وسلطانها على النفوس وقابليتها على الاستدامة والتطور، وبين قوة الأساس الأخلاقي والقيمي، ما يجعل اجتماعهما يفجر طاقات مضاعفة. وأكد “غازي” في ورقته على ضرورة تحري الحركة البعد الأخلاقي في خطابها وأن يكون سلوكاً لقادتها وأفرادها. ووضع رئيس الحركة من قوة التنظيم ومرونته وفاعليته، بجانب العلاقات السياسية البناءة مع القوى السياسية المنظمة والشعبية، وبالتركيز على ما سماها القوة الأكبر والطاقة الجبارة  المتراكمة في القاع، وضعها جميعاً ركائز أساسية لبناء مستقبل الحركة، مصحوبة بإجراءات إدارية وتنظيمية  بدءاً بإعادة بناء الحركة، واكتساب عدد من القيادات ذات الخبرات المتنوعة خلال العام المقبل من عمر الحركة، والبدء  في تجديد  القيادات العليا في غضون الشهور الاثني عشر المقبلة.
بهذه التحديات والإخفاقات ومحاولات وضع الحلول يبقى أمام  الحزب الوليد  تصديق وتأكيد  مقدرة قائده على (الرقص على حافة الهاوية).

 

 

المجهر السياسي