تحقيقات وتقارير

قضايا الاحتيال.. مسؤولون في قفص الاتهام


في الآون الأخيرة شهدت قضايا الاحتيال أساليب دخيلة على مجتمعنا، وأصبح يُمارس من قبل أشخاص لهم علاقة وطيدة بالقانون، ويعرفون مداخله والطرق التي يحتالون بها على ضحاياهم، ولم تقف على بعض السماسرة وأعضاء اللجان الشعبية حسب الوقائع التي أثبتتها المحاكم، بل امتدت إلى مسؤولين ونافذين بالدولة، وهناك العديد من القضايا التي تؤكد ما ذهبنا إليه، كما حدث لأحد المسؤولين بوزارة سيادية والذي وُجهت له تهمة الاحتيال، بجانب قضايا أخرى بردهات المحاكم، وأخرى لم تصل إلى القضاء لأسباب مختلفة، ويرى استشاري علم النفس علي بلدو أن الخوف من ضياع المنصب أو الإقالة بالإضافة للرغبة في الثراء السريع وعدم الخوف من المحاسبة من أهم الأسباب التي تدفع المسؤولين للاحتيال، «آخر لحظة» سلطت الضوء على القضية المسكوت عنها.. فإلى ما جاء بالمساحة التالية:

٭ مطالبة بالحظر
الملاحظ في مثل هذه القضايا مطالبة المحامين بحظر النشر خوفاً من الفضيحة ونسبة لمكانة المتهمين الاجتماعية، فضلاً عن عدم ذكر أسمائهم في وقت يطالب فيه مراقبون بمحاكمتهم في العلن ليكونوا عبرة لغيرهم ولكل من تسول له نفسه بالاحتيال على الآخرين.

٭ حالة نفسية
يقول مستشار الطب النفسي والعصبي وأستاذ الصحة النفسية بالجامعات السودانية البروفيسور علي بلدو إن احتيال المسؤولين حالة نفسية معقدة ذات خلفية اجتماعية تلعب بها الكثير من العوامل أدواراً مهمة، منها الاستعداد النفسي لدى المحتالين نتيجة للعوامل النفسية المساعدة على الولوج لعالم الجريمة والاحتيال جنباً إلى جنب مع الخبرات النفسية السالبة، وترجع للحرمان في فترة الطفولة أو الحياة القاسية، إضافة إلى الإخفاقات المتعددة على الصعيد الشخصي كالعمل والزواج وما شابه، والتي تؤدي إلى توهان على مستوى الشخصية الظاهرية والعقل الباطن، وتساهم في إبراز النزعات والسلوكيات غير المستحبة والتي تنافي تقاليد المجتمع والعرف والوجدان السليم، وخلاف هذا السياق يقول بلدو إن العامل الاجتماعي يكون محفزاً لدفع المسؤول للاحتيال على اعتبار أن 90%من المسؤولين بالسودان لا يجيدون فن ومهارة التعامل مع السلطة، فيبرزون عوامل الوجاهة الاجتماعية والحصانة والرغبة في الثراء السريع وعدم الخوف من المحاسبة، وكذلك الخوف من ضياع المنصب أو الإقالة فضلاً عن خوف الجمهور من مقاضاة الدستوريين والتنفيذيين، ويطلق على هذا الهدم الاجتماعي وساهم في خلق عقل ودستور عرفي يتقبل احتيال المسؤول على اعتبار أنه أمر حكومي أو متلازمات السلطة، وأدى هذا إلى زيادة وتيرة العدوانية تجاه الآخرين من قبل النافذين والشعور بالقوة والقطرسة. وقال أستاذ الصحة النفسية إن المسؤول لا يعتبره احتيالاً، بل إنه قام بواجبه تكليفاً لا تشريفاً، وردد: العقوبة وحدها لا تكفي لأنه سيدفع الغرامة ويخرج من السجن أكثر احتيالاً، وقد يدفع ما حدث كل من يود شغل منصب حكومي رسمي على ما أقدم عليه المحتالون، وطالب بتطبيق مقياس الشفافية على المسؤولين كما يحدث في الدول الأخرى، وقطع ببقاء القليلين على السلطة وانتهاء المطاف بمسؤولين على قارعة الطريق في حالة تطبيق المعايير المعهودة، واعتبر الاحتيال تحدياً كبيراً وخطراً محدقاً بالعقلية السودانية.

٭ مسببات عديدة

الاحتيال له عدة مسببات في مقدمتها الأسباب الاقتصادية، بهذه العبارة بدأت الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم موضحةً وجود عدة أشكال منها التزوير وانتحال الشخصيات للكسب المادي أو الحصول على وظيفة، وهناك آخرون يريدون تحقيق رغبات معينة مثل «منزل، سيارة» وهو انحراف أو عقد اجتماعية معينة قالت إنه تفكك أسري لتحقيق وضع اجتماعي أفضل.

٭ عقدة نفوذ
تواصل ثريا هناك عقد نابعة من الإحساس بالسلطة، حيث يستخدم المحتال نفوذه لتحقيق رغباته الشخصية، ويمكن التمادي في الاحتيال في مجال لا علاقة له بسلطته لغيره أو لمعارفه، وتلعب الطموحات والحاجة دوراً كبيراً في التشجيع على الاحتيال ويكون لعدم توازن أو تربية وجشع المسؤول وعدم قناعته بما يمتلكه، وهذه فقدان للقيم التي يتنازل عنها الكثيرون في وجود المال والسلطة.

٭ الشفافية

وضعت الباحثة الاجتماعية حلولاً للتقليل من ظاهرة الاحتيال خاصة لدى المسؤولين، أولها الشفافية في المراجعات وعرضها على الملأ والمحاسبة في حالة ثبوت التورط ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه من الأفراد والنافذين، فضلاً عن التربية والتنشئة الوطنية على عدم التعدي على المال العام باستخدام النفوذ أو أي وسائل أخرى، وطالبت بتطبيق القانون على كل الأفراد والجهات وأولي الأمر بسن قانون رادع وتوفير آليات لتطبيقه.

٭ حرمة شرعية
أوضح أستاذ الأديان بجامعة بحري د.إسماعيل صديق أن أساس الدين هو العبادات التعاملية، فإن صَحَّت صحت العبادات الشعائرية، أما المحتالون الذين كثروا في هذا العصر والذين يأكلون أموال الناس بالباطل، يحتالون، يغتصبون، يكذبون، يغشون فقد توهَّموا أن الدين في وادٍ، وأن الحياة في وادٍ آخر، والآية التي هي أصلٌ في هذا الباب، هي قوله تعالى:«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»، وهذا الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية يعم من جهة جميع الأمة، وهو وإن كان كذلك إلا أن من المعلوم أن عناية الله عز وجل بالأموال شِرْعة قديمة وواردة في كافة الأديان السماوية ولم يخص بها جيلاً دون جيل، ولا رسالة دون رسالة، ولا أمة دون أخرى؛ ومن المعلوم أن المال قوام الحياة، وأساس تقدم الدول والجماعات؛ فبه تقوم الحياة كلها؛ لذا صانه الإسلام، وجعل تحرُّكه وانتقاله بين الناس مرهوناً بالحق والعدل، فلا غشَّ ولا غبن، ولا ظلم ولا استغلال ولا اغتصاب، ولا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد إلا بإذنه ورضاه، واستدل أستاذ الأديان بحفظ الشارع للأموال وتحريمها، وعدم جواز أخذها إلا بطيب نفس صاحبها بحديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في مخاطبته للناس يوم النحر، فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مراراً»، وهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء، وتأكيداً في التنفير عن الوقوع فيها؛ لأنَّهم كانوا قد اعتادوا فعلها، واعتقدوا حليتها.

٭ تضاعق العقاب
قطع د.إسماعيل بتضاعف العقوبة وتشديد الحرمة في حالة الاحتيال أو أخذ الأموال من قبل أولي الأمر، وأبان أن استغلال النفوذ والمناصب محرم في جميع الرسالات السماوية والإسلام بصورة خاصة أكد على تحريمه وتوعد المذنبين وهناك نماذج كثيرة في الإسلام، فالمؤمن حريص على البعد من الحرام بكافة أشكاله وهو على يقين بأن الله عزَّ وجل ضمن له رزقاً حلالاً، يقول عليه الصلاة والسلام «إن روح القدس نفثت في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، واستجملوا مهنكم» فكل مال أو كسب لا يكون عن طريق مشروع أحله الشرع فهو حرام وهي قاعدة عامة علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم.

٭ سجن وغرامة
أوضح القانوني حيدر التوم أن القانون الجنائي لسنة 1991 عرف الاحتيال في المادة (178) بثلاث فقرات، أولها جريمة الاحتيال بسوء قصد وهي خداع أي شخص بأي وجه وتحقيق كسب غير مشروع لنفسه أو لغيره أو يسبب ضرراً أو خسارة غير مشروعة لشخص، ونصت المادة على معاقبة المحتال بالسجن مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات أو الغرامة أو العقوبتين معاً، حسب طبيعة الجريمة وتقديرات القاضي، بالإضافة لعقوبة السجن لمدة لا تتجاوز الخمس سنوات كما تجوز معاقبته بغرامة، ويلاحظ أن المشرع تشدد في العقوبات لأنها من الجرائم الشائعة، وهي تهدد التعاملات بين الناس، وأشار حيدر إلى أن مرتكب الجريمة يمتلك أدواته من استغلال نفوذه ومنصبه مهما كان اجتماعياً أو سياسياً ليمارس بواستطها الاحتيال على الآخرين، فهناك من يستأجر عربة أو يغير من مظهره ليختلف عن حقيقته، وإذا ثبت أن مرتكب الجريمة يستغل منصبه مهما بلغ فيتبع الاتهام مواد أخرى، واعتبر القانوني أن الجريمة لا علاقة لها بالأوضاع الاقتصادية كما تقول بعض المدارس مستدلاً بعدم ارتكاب كل من حدثت له ضائقة لهذه الجريمة، وأرجع سبب تفشي الجريمة لضعف القانون والعرف الاجتماعي الذي يحكم بعدم مصادقة أو مصاهرة مرتكب الجريمة وقد أصبحت «فهلوة، وشطارة»، وعن سؤال «آخر لحظة» عن صعوبة إثبات الاحتيال أجاب، بل من السهل إثباته بالمحاكم حسب الوسائل «الشهود، الإقرار، المستندات»، ودافع المحامي عن قبيلة المحامين بعد سؤال الصحيفة عن ضلوع بعضهم في مثل هذا القضايا وقال إنه مثل بقية المجتمعات به الصالح والطالح، وإذا كانت هناك هنات من بعض الأشخاص فلا تحسب على القبيلة بأكملها، والمعلوم أن المحاميين حاملون للواء العدالة.

من المحرر:
لهذه الجريمة مميزات خاصة تميزها عن غيرها من الجرائم، كون الجاني يرتكب جريمته بحضور المجني عليه وبعلمه وبرضاه، سواء بإبرام اتفاق أو صفقة معينة بأسلوب يستحوذ فيه الجاني على أموال أو ممتلكات المجني عليه مقابل هذا المشروع الوهمي الكاذب أو الحادثة التي لا حقيقة لها أو أن يتخذ الجاني اسماً كاذباً أو صفة غير حقيقية فيحصل بضوئها على أموال أو إسناد تتضمن تعهداً أو إبراء، هذا هو المتعارف عليه بقضايا الاحتيال، أما أن تتجاوز الحد وتنتقل لمسؤولين ونافذين، فهذا الأمر يفتح الباب أمام العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى الإجابات الشافية من قبل السلطات خاصة بعد أن تصدرت هذه الظاهرة صفحات العديد من الصحف، ترى هل سيكون هناك علاج ناجع لوقف الاحتيال من بعض رعاتنا؟

تحقيق: معاوية عبد الرازق
صحيفة آخر لحظة