منوعات

“عدي بينا يا مراكبي” الحديد.. السيطرة على النهر بعد انحسار الاخشاب


منذ أن عرف الإنسان البحر، ظهرت صناعة المراكب الصغيرة التي تنقل سكان الضفتين وتعمق أواصر الصلات الاجتماعية، فضلاً عن تبادل المنافع. فعلى الضفة الغربية للنيل الأزرق ترقد جزيرة توتي التي عرفت صناعة السفن والمراكب منذ القدم، وتُعد السوق الأكبر لصناعتها بكل الأسماء والأشكال والأحجام بغرض الصيد والسياحة، ومثل براعتهم في الصنع برعوا أيضاً في استخدامها باحترافية عالية، حتى أنها سهلت الحراك بين توتي والخرطوم قبل أن يربطها الكبري حديثاً.

ولما كانت المراكب والمعديات هي وسيلة المواصلات الأولى والوحيدة في المنطقة من الطبيعي أن تجد الوقود والمواد التموينية على متنها بجانب الناس، يعيش على أشرعتها صيادي المنطقة الذين يبحثون عن رزقهم وسط النيل، وأيضاً صانعوها الذين لا يتعاملون معها على أساس أنها مركب خشب أو حديد، بل تراها أعينهم تحفة فنية يجب الحفاظ عليها، غير أنها مصدر رزقهم.

مراكب الخشب

قبل أن تظهر المراكب الحديدية ويذيع صيتها بين الصيادين والمعديين كانت تحتل مراكب الخشب المرتبة الأولى منذ أن عرف التنقل بين شلالات البحر، لم يبخل محمد ويوسف أحد أولئك الذين يبرعون في صناعة المراكب أن يشرحوا لنا كيف تصنع هذه المراكب وبدقة متناهية، بعيداً عن البحر تبدأ حياة المراكبي، من أعلى القيف تحت راكوبة تتساقط بعض الأوراق من سقفها فوق رؤوسهم، يقاومون انقراض مهنتهم الصعبة، ونجد أنهم يحملون سمعة طيبة في صناعة المراكب الخشبية التي نجحوا في تحويلها إلى حديدية تواجه رحلات الصيد في أعالي البحار. وبحسب محمد ويوسف أن خشب التوت والسنط هما المستخدمان في صناعة المراكب لأنهما الأفضل بجانب خشب الكافور.

تكنيك الصناعة

بعد إحضار الخشب المحدد، تبدأ تحت الراكوبة عملية الشلخ، وهي أول خطوة في طريق صناعة المركب الصعب، الذي يحتاج لجهد وصبر معاً. وقال محدثنا محمد: بعد أن تتم عملية الشلخ تُرفع فوق شجرة كبيرة لتقطع الجذوع قطع صغيرة بعرض (3) سنتميترات. وأشار إلى استمرار عملية القطع والشلخ متزامنة مع البرد بالمنشار اليدوي. ولفت يوسف إلى أن هذه العملية يقوم بها شخصان على الأقل، بحيث أن يكون أحدهم فوق الخشب والآخر من تحت يتبادلون عملية الشد والجذب حتى يكتمل العدد المحدد من الخشب (المقوس والمستقيم)، وتكتمل بذلك المهمة ليبدأ ربطها بمسامير كبيرة الحجم، وتنتهي العملية بربط الشراع للمراكب ذات الشراع، والمجاديف لمراكب التجديف.

فنون تشكيلية

صناعة السفن بجزيرة توتي فن لا يقل روعة عن الفنون التشكيلة واللوحات التي تعرض في أكبر المعارض لتباع بملايين الجنيهات، تميزت توتي بصناعتها، فبرع صانعوها في رسوماتها وطليها بألوان زاهية أضفت عليها رونقاً وجمالاً، جعل الإقبال عليها عالياً، وباتت تطلبها نوادي التجديف وشركات السياحة وعدد مقدر من هواة الصيد، لاسيما اليخوت والمراكب ذات الشراع وغيرها. وقال محمد إنهم يميلون إلى رسم المناظر الطبيعية كالشروق والأزهار وشلالات المياه وعروس البحر، بالإضافة إلى النقوش والكتابة بالخط العربي.

مراكب من الحديد

بالرغم من الجهد المبذول والعمل المتقن وروح العمل الجماعي والتواصل الذي يستمر لشهور وسنوات بين أولئك العمال البسطاء، إلا أن هناك من ترك العمل ليتجه نحو حرفة أخرى بعد أن قل الإقبال عليها، فيما حافظ عليها وصمد وارثو المهنة من الغرق أمام ارتفاع أسعار المواد الخام المستخدمة في إنشاء مراكب الصيد الخشبية التي يستغرق صنعها عاماً كاملاً ترفع خلاله أسعار الخشب والحديد، فيتعرض البعض للخسارة جراء ذلك، بالإضافة إلى المجهود المضني الذي يبذلونه في فصل الخريف حيث يتشبع الخشب بالمياه، مما يضطرهم إلى تركه يتعرض للشمس ثم إدخاله الفرن كي يجف ويصلح للاستخدم بعد ذلك، لكن بعد استبدال الخشب بالحديد أصبح من اليسير صنع مركب في زمن وجيز، فضلاً عن أنها أضمن من المركب الخشبية التي تكون عرضة للغرق وهم مسؤولون عن أرواح تعيش على متنها تتكسب رزقها، رغم ذلك تظل صناعة المراكب إحدى المهن التي تقاوم الانقراض، ولاسيما أن هناك من يحتفظ بسر المهنة الموروثة ويتمسك بها

 

 

اليوم التالي