عبد الجليل سليمان

هيستاريكا القتال المجاني


وأغنية الجاغريو تعيد ليالي الخرطوم إلى (سبعينيات) القرن الماضي، فيفرك الرجل المُسن الذي كان يجلس جوار الصبيّة اليانعة في باحة الفندق، تارة وينشغل بخلع نظارته الطبية السميكة وأعادته إلى مشجب أذنيه الكبيرتين تارة أخرى، يفرك عينيه ويتأوة وهو يردد مع المغني الشاب: “حوريات تلاتة وبسهــامن أذنـّي/ غابن مـن عيونـي بالأشواق غزنـّي/ سابني وما رعاني/ والموت فـي عـيونن وأنا ما ورعنـي/ من خمرة غرامن غير كاس جرعنّي”.
الرجل يتأوه، ثم يطلق يصوت خفيض سلسلة من الشتائم الهامسة على من وصفهم بأنهم دمروا البلاد وأذلوا العباد، وأحالوا العاصمة خراباً مديداً. الصبية التي تجلس إلى الطاولة المجاورة (على كيفها) وكأنها ليست في عاصمة المطففين والطفابيع، تصدر عنها أنّات وتنهدات كمواء قطة تتمخض، وأنا كانت أذناي مشرعتان وعيناي مرصد قرني استشعاره في حالة تأهب قصوى.
(1)
إلى تلك الأغنية كان الأمر يمضي بطيئاً لكنه لذيذ، وكان الغناء يدب في مفاصل الجميع مرحاً لا يشبه الواقع على بعد أمتار خارج باحة الفندق، كانت الصبية تتمايل، تتثنى، تنعطف، ترتخي، تتمدد، تتمطى ثم تتكور فتنفرج مرة أخرى. إيقاع التُم التم الجارف يجعل الأجساد تشتعل طرباً. فكرت في مداعبة العجوز الثمل فرط الطرب، فتراخيت عليه وملت نحو بجذعي، إلاّ قليل منه تركته على الكرسي خوف مصادرته من أحد الواقفين.
قال الرجل: الجماعة هنا، أقصد العصبة هذه، تدير أمورنا بطريقة إيقاع التم التم، تضرب على الطبل، فيئن الوطن ويرجحن الجميع، والجميع هنا (ود عمي وضريب دمي)، لكن هذه الفرقة والشتات واقتتال القبائل في درافور خاصة على أسس بدت في لحظتها الأولى وكأنها بتلك التقسيمة البايخة (عرب – رزقة) كما يروج بعض الموتورين والعنصريين في بعض الصحف الموتورة، وكنا ننتظر حتى هذه اللحظة، كنا نتوقع حتمية هذا الصراع المفتعل بين مكونات ظلت آمنة مطمئنة فيما بينها تتناسل وتتصاهر وترقص وتطرب وتعمل وتعطي الوطن كل شيء جميل. الآن ومع الصخب والهرجلة نسى الناس أن يغنوا (حوريات تلاتة) وما شاكلها، نسوا أن يرقصوا على إيقاع التم التم، صاروا يقرعون طبول الحرب ويتمايلوا مع (دخلوها وصقيرها حام)، وتسيل الدماء (أمطارا) يقتتل الناس في لا شيء.
(2)
نأسف، حتى نحن في الإعلام لا نستطيع أن نفعل أكثر من أن ندين ونشجب، لكن حتى هذه الإدانة تغيب عن بعض الصحف، بل يمضي بعض قارعي طبول الحرب من الزملاء في (نجر) قصص وحكايات تؤجج هذا الموت المجاني. ما الذي يجعل المعاليا والرزيقات يقتتلون؟ ما الأجندة، ما الدوافع؟ هل كل هذه الدماء المُسالة من أجل (أرض)! من أجل (حواكير)، ولماذا لا يتدخل الحكماء، لماذا أضحى لا يستجيب المسلحين لنداء العقل والحكمة؟ وأين الحكومة؟ أليس من أوجب واجباتها منع هذا التناحر القبلي وحقن دماء المواطنين؟
غريبة هذه الحكومة؟