تحقيقات وتقارير

“طبق الأصل” رغم مناصب عديدة تقلدها إلا أن حضوره الغالب كان “خلف الكواليس”.. صورة “الدقير” في عيونهم


كيف يمكن قراءة شخصية الدكتور جلال الدقير الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي ومساعد رئيس الجمهورية؛ طرائق عمله في المجال الدستوري واندغامه في العمل العام؟ إذ أنه أكثر وزراء الحكومة صمتا وهدوءا وبعدا عن الإعلام، فليس سهلا حتى قراءة تعابير وجهه إن حزناً كظيماً أو فرحاً ووداعة، مثلما يصعب على الكثيرين استكناه مهام جلال على ظهر الدولة السودانية، ورغم مناصبه العديدة التي تقلدها إلا أن سمته الغالب كان “خلف الكواليس”، لكن هذا بالطبع لا يحجب انعكاس صورته، فموقف الانتخابات الأخيرة دفع حزبه للصراخ، وقارب أن يعكس عقارب ساعة موقفه السياسي قبل أن تهدأ الموجة وتنقشع الغمامة بثبات منذ أن وطأت أقدام حزبه ثرى الخرطوم في العام (96)، لكن ماذا يكتنز جلال الدقير في مسيرة قاربت العقدين في الشأن العام، عجت بعاديات الأحداث وجرت فيها مجرى السيل؟

النزاع المحتوم

معلوم أن الدكتور جلال الدقير اعتلى منصب الأمين العام المنتخب لحزبه في مؤتمر عام، ثم تقلد ثلاثة مناصب وزارية، بدأها بوزارة الصناعة والاستثمار التي مكث فيها طويلا، ثم التعاون الدولي لفترة قصيرة، وأخيرا مساعدا للرئيس، لكن ظهرت شخصية الدقير على سطح الأحداث بعد قبول حزبه العودة إلى البلاد حاملا مبادرة الحوار الشعبي الشامل، فكانت هي أول مبادرة حوارية حقيقية جادة في زمن الإنقاذ، وكان هو من رواد هذه المبادرة، ومن ثمراتها طرح برنامج وطني متكامل يتناسى الناس فيه أحزابهم ومسمياتهم وانتماءاتهم، ويلتفتون فقط لاستنقاذ البلاد، وحقيقة فقد بدأ دور جلال الحقيقي الظهور على سطح الأحداث بصورة كبيرة عندما أصبح الرجل الأول في حزبه عقب رحيل الشريف زين العابدين الهندي في العام (2007) فقد دفعه رحيل الشريف إلى واجهة الأحداث تماما أمام نظام يعقد معه حلفاً مضت عليه عشر سنوات، وحزب يعج بالطموحين ممن لا يتوانون عن منازعته كما هو شأن السياسة في البلاد.

النشيد والنشاز

لا يتردد سليمان خالد، أمين أمانة الشباب السابق بحزب الدقير، في وسم الأوضاع في حزبهم بأنها متأزمة منذ رحيل الشريف زين العابدين، فهو يؤكد أن الحزب ظل طوال فترة الدقير يفتقر لمقومات الحزب الديمقراطي بفكره وتنظيمه وخطه السياسي وإدارته المالية، فلسليمان اعتقاد جازم أن هناك إخفاقا كبيرا رافق فترة الدقير في الحزب وما يزال، ويدلل بهجرة ومغادرة عدد من الكوادر وانضمامهم إلى تيارات اتحادية أخرى، بل ومجموعات، أبرزها تيار صديق الهندي وتيار الإصلاح والتغيير، الذي يطالب برحيل الدقير وتحقيق المانفستو المنصوص عليه في دستور ولوائح الحزب، فهو يؤكد أن طبيعة الحزب الاتحادي المشكلة من تباينات كبيرة وأمزجة مختلفة في حاجة لضابط ذي شخصية متسلطة وقاهرة، وهو ما أكد فشله مع الاتحاديين أو أن يكون شخصاً واسع الصدر مثل الدكتور جلال، ويؤكد حديثه بمحافظة حزبه في عهد جلال على وحدته وسلامته من التشظي الذي ضرب معظم الأحزاب السياسية، ويراها محمدة وصفة خاصة لجلال الدقير استطاع أن يعبر بها أحلك المزالق وأقساها وطأة على الحزب، فيما يرى سليمان أن الدقير سياسيا ظل موقف حزبه رديفا لموقف المؤتمر الوطني في كل المحكات المتعلقة بالقضايا الوطنية والقضايا اليومية، ولم يتخذ الحزب طوال تقلد الأمين العام موقفا مناقضا لسياسات ومواقف حزب المؤتمر الوطني رغم الأخطاء الكبيرة التي ترتكب والانتهاكات التي حدثت في العملية السياسية، ويشير سليمان إلى أن موقف الحزب استلب تماما ورغم أن الحزب يؤمن بوحدة البلاد ولا يسمح أو يفرط في وحدتها إلا أن الحزب الاتحادي بقيادة الدقير سوق لأطروحات المؤتمر الوطني بصمته تجاه قضية انفصال الجنوب بعد قبوله باتفاق نيفاشا وما تلا ذلك من انفصال للجنوب. ويقفز سليمان خالد أمين الشباب السابق ليذكر أن الدقير ومنذ أن أضحى الرجل الأول في حزبه وباعتبار أن الحزب جماهيري إلا أنه فشل في صنع كاريزما جماهيرية وظل يكتفي بفترات الحملات الانتخابية كما في الانتخابات السابقة والأخيرة.

لكن عضو المكتب السياسي المركزي للحزب، طارق بريقع، يقلل كثيرا من مزاعم سليمان خالد وآرائه حول الدكتور جلال الدقير، فهو يرى أن الدقير فعلا شخصية صفوية لكن بمعنى الكلمة التي تعبر عن الترتيب والدقة والانضباط لا الانغلاق والعزلة عن الجماهير، ويستدل بأن فترة جلال شهدت زيارات إلى الولايات أكثر مما شهدت فترة الشريف زين العابدين، وأن مكاتب الحزب زادت من حجم الالتصاق بالحزب حيث يؤكد أن الدقير ظل يلتقيهم في مكتبه بالأمانة العامة كما ظلت داره مفتوحة لاستقبالهم.

الوحدة الاتحادية

أما على صعيد الوحدة الاتحادية فيرى طارق بريقع أن جلال ظل يتقدم أي مبادرة تعمل على تجميع الصف الاتحادي، ويكشف أن التسريبات التي كانت تتحدث عن لقاءات تجمع الدقير بالسيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي والأستاذة جلاء الأزهري، كانت لقاءات حقيقية بيد أنه يشير لعدم رضاهم كقيادات بالوحدة في ذلك الوقت، لكنه يؤكد أن ذلك لم يمنع جلال الدقير من إقناعهم بضرورة التواصل والعمل على وحدة الصف الاتحادي رغم أن رأي أمين الشباب السابق كان خلاف ذلك، عندما أشار إلى أن جلال كان يستخدم قضية الوحدة الاتحادية كمناورة وهو الشيء الذي رفضه بريقع ورد عليه بالقول “رغم أن جلال هو الأمين العام المنتخب إلا أن القضايا المفصلية الكبيرة لم يكن يتخذ قرارها منفردا بل كان يستشير فيها مؤسسات وقيادات الحزب”، ويضيف “لو أن جلال يتخذ قراره منفردا لكنا الآن موحدين”، حيث يؤكد “هو على الدوام كان مهموما بالوحدة أكثر منا”.

اختلاف في المشاركة

لا يخفي قادة الحزب الاتحادي الديمقراطي انتقاص المؤتمر الوطني لدورهم ومشاركتهم معه في الحكومة، فذلك الاتهام ظل واردا على الدوام في كل الحكومات التي شارك فيها الحزب، رغم أن الاتحاديين تركوا بمشاركتهم بصمة واضحة للعيان ليس من خلال الإنجاز المادي بل كذلك من خلال الرؤية الإستراتيجية لمهمتهم الوطنية، ولما كانت فترة جلال الدقير في وزارة الصناعة التي امتدت لعشر سنوات قد بدأت تتحقق من خلالها رؤية الحزب في النظر إلى التكليف الحكومي بصورة راعي المهمة بجوانبها الشاملة، حيث يقول حسن النادر الغفاري، أمين الفكر والإستراتيجية في الحزب الاتحادي الديمقراطي، إن الدقير استشعر منذ البدء أن عملية الاستهلاك للسلع الاستهلاكية تؤدي لإنهاك خزانة الدولة، وكم السيولة فيها لذلك فإنه سعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي للسلع المحلية بحيث يصبح في المحصلة النهائية كل ما يتعلق بالدواء والغذاء والكساء والإعمار منتجاً محلياً، ويشير الغفاري إلى أن ذلك يعزز القرار السياسي للدولة لذلك فإن استشعار الدقير كل ذلك دفعه للسعي حثيثا لتوطين صناعات مهمة ومتعددة في مقدمتها توطين صناعة الأسمنت في السودان، وهي السلعة الأهم في إحداث التغيير والثورة العمرانية في نمط السكن، ويشير إلى أن عهد الدقير شهد أكبر تحول في إنتاج السلعة فقد كان الإنتاج يبلغ (300) ألف طن ووصل في عهده إلى (60) مليون طن سنويا حيث تحقق الاكتفاء الذاتي وأصبح هناك فائض للتصدير.

السكر.. خفايا دولة الصناعة

أكثر الملفات التي تركت ضجيجا على السطح السياسي هي قضية السكر حيث ارتبط ملفه مباشرة بعهد الدكتور جلال الدقير وهو وزير للصناعة، حيث إنه ومن موقعه كان مفجرا لثورة السكر، ويقول النادر الغفاري إن سلعة السكر تعد من السلع الإستراتيجية عالميا، ومن السلع التي ترسم بعض مناحي السياسة الدولية ولذلك سعى دكتور جلال الدقير أولا لتوطن هذه الصناعة في البلاد وأن تتم زيادة الكادر البشري الوطني المتخصص في هذه الصناعة، لذلك فإن الغفاري يشير إلى أن الدقير شهدت فترته إعادة تأهيل لمصانع السكر العاملة والمتعطلة وزيادة الإنتاج الشامل لتوليد الطاقة واستخلاص الإيثانول والأعلاف وسلعة السكر نفسها في هذه المصانع، وسعى لأن يتحول مصنع كنانة من مجرد مصنع ينتج السكر وتوابعه إلى جهة مرجعية تخصصية لها كلمتها المتخصصة الرائدة في عالم إنتاج السكر دوليا، وهو ما حدث فعليا حيث، يضيف: “تحولت كنانة من مجرد مصنع لإنتاج السلعة لرافعة تزيد من حجم صناعة السكر وتوابعها في البلاد أفقيا ورأسيا”، ويشير النادر الغفاري إلى أن نجاح فكرة كنانة نبعت منه فكرة إنشاء مصنع بمواصفات عالمية وطاقة إنتاجية كبيرة في النيل الأبيض وهو مصنع سكر النيل الأبيض عند ذلك انداحت فكرة رفد مصانع السكر في طول خط النيل الأبيض مثل مصنع مشكور وغيرها ووضعت الأفكار التأسيسية لمشروع سكر حفيرة وأن تمتد مصانع السكر على النيل الأزرق كما هي على النيل الأبيض.

مع الطلاب أيضا

وفي إطار توليد إحساس مباشر من المواطن بخدمات مباشرة تقدمها الوزارات الاقتصادية كوزارة الصناعة مثلا أدخل الدكتور جلال وزارته في مشروع اجتماعي بشراكات ذكية بين الوزارة والقطاع الخاص وصندوق رعاية الطلاب فشاهدنا أكبر ثورة اجتماعية تمس المواطن مباشرة للأجيال الصاعدة، التي كانت هي أبراج إسكان الطلاب وإيوائهم في داخليات تتوافر فيها كل الخدمات الأساسية حيث توسعت وقتها مؤسسات التعليم العالي، وقام بتشييد مدينة إبراهيم مالك، ومدينة داود عبد اللطيف.

فترة قصيرة في التعاون الدولي

قضى الدكتور جلال الدقير فترة قصيرة في وزارة التعاون الدولي التي أنشئت في أعقاب تشعب المسؤوليات في وزارتي المالية والخارجية للإمساك بملفات لها خصوصيتها فتدفع بها إلى الأمام وتصب محصلاتها في وعاء الدولة الجامع فكان هو أول من تسنم هذه الوزارة وهي جديدة فصنع لها كينونتها الذاتية وآفاقها الرحبة للانطلاق بشبكة واسعة الطيف من العلاقات الدولية، ظل من موقعه الوطني الكبير كزعيم لحزب هو الحزب الرائد في العمل الوطني، ظل يرفد بها الوعاء الجامع للدولة السودانية دون من أو رياء.

في القصر الجمهوري

انتقل الدقير هذه المرة لمهمة سيادية إشرافية عندما تم تعيينه في العام (2010) مساعدا لرئيس الجمهورية، فالمهام السيادية بطبيعتها إشرافية توجيهية بعكس مهامه السابقة التنفيذية، فكان فيها موجها وداعما للكثير من النشاطات الشبابية وموجها ومشيرا إلى نواح يتوجب على الدولة الانتباه إليها في العلاقات الدولية وصناعة الأحلاف مع الحياد والاستقلالية وصناعة التحالفات التي تدعم الاستقلال الوطني وتصب في خدمة الدولة وقد استغل علاقاته الخارجية الواسعة المتشابكة والمتعددة في خدمة الدولة السودانية وهو إذ يفعل ذلك فإنه يفعله لكونه من أبناء مدرسة لا يهمها من يحكم بقدر ما يهمها كيف تحكم، وهي مدرسة لها إطارها الوطني الجامع إذ تفرق تماما بين الحكومة وبين الدولة فالحكومة ذاهبة والدولة هي الباقية وهذه المدرسة لها ملامحها العامة التي من أهمها أن سقف الولاء الوطني والانتماء إليه يجب أن تندرج تحته كل الولاءات والانتماءات.

صامت إعلاميا وناشط اجتماعيا

من النادر جدا أن يظهر الدكتور جلال الدقير في شاشات التلفاز أو تحمل الصحف خبرا عنه وهو على درجته الأدبية الرفيعة ومقدراته في الحديث كسمت وصفة اتصف بها الاتحاديون إلا أنه قليل الكلام، ويوكل مهامه الإعلامية لمكتبه في الوزارات التي تقلدها أو أمانة حزبه، وعرف جلال بتحمل الانتقادات التي توجه إليه رغم أن العالمين ببواطن الأمور ومن هم في داخل كابينة الحكومة يعرفون أن جلال يتمتع بمزايا رجل الدولة من الطراز الفريد، حيث لا يجنح أبدا للتلميع بل يفضل في غالب الأحوال دور “خلف الكواليس” وهو من المقربين لرئيس الجمهورية المشير عمر البشير وحسب مقربين منه فإنه يتمتع بثقة كبيرة من الرئيس، فيما عرف الدكتور جلال الدقير بوصل اجتماعي كبير فكان أن ابتدع فكرة وبرنامج “تواصل الرمضاني” الذي رعته رئاسة الجمهورية، بجانب جولاته اليومية على الاتحاديين في الأفراح والأحزان.

أسفار طويلة

يتكبد الدكتور جلال الدقير عناء الأسفار سنويا لزيارة أسرته شبه المقيمة في الخارج فابناه يعملان في وظيفتين مرموقتين، أحدهما محاسب بشركة بريطانية والآخر إداري أيضا، فيما تقيم ابنته داخل البلاد، وابنه عمر ووالدته ينتقلان بين القاهرة وجدة ولندن، وبلا شك فإن أسرة الدقير هي من الأسر المعروفة بانتمائها لنادي المريخ الأم درماني

 

اليوم التالي