الهندي عز الدين

رحلتي إلى الهند (3)


مما لفت نظري وشد انتباهي في زيارتي الحالية لجمهورية “الهند”، تعظيم التراتبية (حالة الترتيب والاصطفاف) في كافة مناحي حياة الناس هنا، فأكبر منك بساعة أعرف منك بسنة، وأقدم منك بيوم في العمل أو الدراسة هو (سنير) يستحق الوقوف والتبجيل .
حدثني أحد السودانيين الذين درسوا بالهند ومتزوج من هندية، أنهم عندما كانوا في (سنة أولى جامعة) تعلموا مما تعلموا من ثقافات وآداب هذا الشعب العظيم ضرورة احترام (طالب سنة تانية)، بحيث لا يمكنه أن يمر بهم أو يقف جوارهم وهم جلوس على (البنشات)، إذ يتوجب وقوف (البرلوم) في حضرة (السنير) تأدباً وتزلفاً!!
عندنا في السودان، قد يعتدي طالب (سنة أولى) على الأستاذ بالضرب أو الإساءة، ومخالفة التعليمات والأوامر، وبالتأكيد فإن أحداً لا يقف إذا مر (البروف) قريباً من مكان جلوس تلاميذه، دعك من الوقوف لطالب سنة تانية!! وفي مؤسساتنا الصحفية لا يأبه محرر أو محررة (ما قامت من قعر الواطة) لرئيس القسم ولا يبجلون مدير التحرير ولا رئيس التحرير، بل قد يسخرون منهم من وراء ظهورهم، ويدعي من لم يمض ثلاث أو خمس سنوات في بلاط صاحبة الجلالة، أنه أفهم وأعلم من كل من سبقوه من جهلة الصحافة السودانية!! نعم .. لدينا رؤساء تحرير (كبار)، ما ترأسوا يوماً قسماً، كل إنجازاتهم الصحفية ادعاءات في هواء الخرطوم الساخن جوار ستات الشاي وبعض مشاركات في قروبات ومواقع (النت)!!
وقد يدخل الوزير في السودان الوزارة بينما يظل (الخفير) أو البواب جالساً في كرسيه أو نائماً على كنبة، أو تحت ظل شجرة، فالوزراء والمديرون في بلادنا متواضعون ويجعلون (الحالة واحدة) مع العمال والسواقين وأفراد الحراسة!!
وثقافة (الحالة واحدة) هي واحدة من أهم أسباب القعود بأمة السودان التي لا صغير فيها أبداً، الكل فيها سواسية .. الكل فيها كبار!!
(السسترات) في مستشفى (ميوت انترناشونال) من عمر (22- 25) عاماً، هن أساس وركيزة العمل بالمستشفى، فكل التعليمات الطبية تنفذ من خلالهن . وعكس ما كنت أتخيل قبل وصولي للهند، أن غالبية الهنديات فارعات القوام، فائقات الجمال، وجدت أن سكان إقليم (التاميل) في الجنوب الشرقي من الدولة، سمر البشرة كلون السودانيين، ضعاف البنية، وقصار القامة في الغالب الأعم .
ولهذا ظل يدهشني منظر هؤلاء (السسترات) وهن في أحجام تلميذات الثانوي العالي في مدارس الخرطوم ! بل إن بعضهن في أوزان طالبات الأساس عندنا !!
ورغم ذلك تجد (الشافعة) منهن، مسؤولة عن (7) غرف لمرضى (VIP)، حسب تصنيف إدارة المستشفى، وتقوم على خدمتهم مع زميلة أخرى في وردية تبدأ عند السادسة مساءً وتنتهي عند الثامنة من صباح اليوم التالي .
أقسم بالله .. لم أضغط على الجرس الموصول بالسرير، وعلى مدى عشرة أيام ولعديد المرات خلال اليوم وأحياناً خلال الساعة، ولم تكن (السستر) أمامك خلال دقيقتين فقط .. وهي هاشة باشة .. سعيدة بعملها ولو طلبتها عند الرابعة صباحاً !!
ولاشك أن لكل منكم تجربته التي يتذكرها جيداً ويحتفظ بها للتاريخ عند مرضه أو ممارضته لقريب أو صديق بإحدى مستشفياتنا، وكيف يشقى في طلب ممرضة أو سستر بعد منتصف الليل – إن وجدت – وأين يجد الطبيب المناوب .. بعد بحث مضنٍ .. في الاستراحة المجاورة .. أم بمكتب مطرف .. أم في (الميز) ؟!
قبل أشهر كان صديقي “عماد” يرافق والده طريح الفراش بأحد مراكز القلب بالخرطوم، ولما استدعت حالة المريض استدعاء نائبة اختصاصي ولم تكن موجودة بمكتبها، وهاتفها لا يمكن الوصول إليها، هب صديقنا للبحث عنها داخل المركز، وعندما وجدها واستنفرها للإسراع لنجدة والده، كانت ترد عليه بتبجح: (أنت جايني ليه .. ما يتصلوا بي هم) . . رد عليها: (لكن تلفونك مقفول يا دكتورة) .. رغم ذلك لم تخف ثورتها بسبب استدعائها لتأدية واجبها أثناء دوامها المسؤولة عنه في الدنيا وفي الآخرة .
أمس أخبرتني (السستر الشافعة) بالمستشفى الهندي في مدينة “تشيناي” بأن عليها أخذ (عينة دم) مني عند الرابعة صباحاً!! قلت لها: (لماذا الرابعة .. دعيها السابعة ما دامت ورديتك تنتهي عند الثامنة .. إذ أنني أنام بالكاد ساعتين). رفضت بشدة وتهذيب في ذات الوقت وهي تكرر ( لا .. لا .. يجب أن يجد دكتور “برتفي” نتيجة الفحص عند مروره في السادسة صباحاً، وقبله البروف “مهنداس” في مرور الخامسة)!!
عند الرابعة تماماً .. وكنت قد نمت لنحو ساعة فقط .. استيقظت على صوت (4) سسترات من أحجام (بنات تامنة أساس في بلادنا) .. اثنتان يرتديان زياً أبيض ويضعان الكمامات على فاهين، وعلمت أنهما مبعوثات من (المعمل) خصيصاً لأخذ قطرات من دمي الغالي!! أما الثانية والثالثة، فملابسهما معتادة لدي باللون الوردي، وهما من ممرضات القسم الذي أرقد فيه .
اقتربت مني واحدة من مندوبتي المعمل، لو رأيتها في السودان لحسبت أن عمرها لا يمكن أن يتجاوز الـ(15) عاماً بأي حال من الأحوال . خلال (5) دقائق كانت (السستر الشافعة) تسحب الدم من وريدي، مع أنني تعودت – داخل وخارج السودان – أن الأمر يحتاج لبعض زمن وعدة طعنات هنا وهناك ليجدوا أحد أوردتي (الغميسة)، غير أنني – والشهادة لله – أشهد أيضاً للممرضين (المصريين) بأنهم بارعون غالباً في فنيات طعن الإبر والدربات وأخذ الدم .
في مستشفى (حاج الصافي) ببحري، وقد تم افتتاحه قبل نحو عامين في إطار خطة ولاية الخرطوم لنقل الخدمات الطبية من المراكز، فشل (ممرض) سوداني يبدو من سنه طويل الخبرة وبحضور أطباء، قبل يومين في (فتح) حقنة اسمها (EPREX – 4000)، غير متوفرة بالسودان، تستخدم لرفع كمية الحديد بالدم، سعر الواحدة نحو (80) دولاراً، وتم كسر الحقنة وكأن شيئاً لم يكن!!
وعادت المريضة – وهي إحدى منسوبات (المجهر) – مع أمها إلى البيت والحسرة ترسم ملامحهما، لإحضار (الحقنة) الثانية ضمن كورس من (4) حقن، استجلب بطريقة خاصة من القاهرة بعد شق الأنفس وبعد توفير ضمانات وصولها صالحة للخرطوم بوضعها في (حافظة ثلج) طوال الرحلة.
تخيلوا .. ماذا حدث في المستشفى الحكومي .. للحقنة الثانية بعد أن أريق دواء الأولى وذهب هباءً منثوراً ؟! تم كسر الحقنة (الثانية) أيضاً من قبل ممرض بالعملية الصغيرة، وكان تعليق أحد صغار الأطباء (الحمد لله نحنا ما اتدخلنا)!! ثم كانت مبررات فلاسفة الفشل الطبي أن تلك الحقنة من نوع (خاص) وكان ينبغي فتحها في مستشفى (خاص)!! لكنهم لم يحددوا اسم مستشفى (خاص) في الخرطوم يقل (سجمه) عن (رماد) مستشفيات الحكومة!!
للتأكد من حقيقة كسر الحقنتين العزيزتين بواسطة أحد مسؤولي وزارة صحة البروفيسور “مأمون حميدة” .. الاتصال بسكرتارية رئيس مجلس إدارة (المجهر) بالرقم الموجود على الصفحة الأخيرة أو بالوصول مباشرة لمكاتب الصحيفة، إن كان الأمر سيحرك شعرة في رأس مدمني الفشل.