تحقيقات وتقارير

المزرعة السعيدة: ساسة ومسؤولون يمتلكون عشرات الأفدنة على النيل لكنهم لا يبدون اهتماماً بالحقل.. مفارقة تنهض من بين “السرابات”: احفظ مالك


يطل الرئيس البشير في حوار تلفزيوني ويُحدث الناس صراحة أن لديه مزرعة في (السليت) تدر له الملايين، وتغنيه عن السلطة. الدهشة تصعق الكثيرين، وهي دهشة تتجاوز بداهة مسرح الخبر إلى النحت في صخرة الأمان الوظيفي بالنسبة للسياسيين، وكيف يفكرون حيال المستقبل؟ ليس هذا فحسب؛ بل إن الحرس القديم من الإنقاذيين، اتضح أن لدى معظمهم مزارع مد البصر، وأنهم يفلحونها بصورة شبه دائمة، اشتروها بالمليارات. البعض يقطنها، والبعض الآخر يطل عليها بين كل حين.

على مقربة من ذلك، وبالخصوص في الأسافير تشتهر لعبة (المزرعة السعيدة) والتي تتوفر لها كل الإمكانيات في المخيلة، حتى أن مواسمها لا يصيبها البوار، ولا تغرق الفلاحين في الديون، ولا ينطبق عليها غناء القدال (ﺍﻟﺒﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﺧﻼﻫﻮ ﻭﺍلأﺭﺿﺔ ﻓﻲ ﺑﻴﻮﺗﺎ).. مزارع الساسة والمزرعة السعيدة تتشابه إلى حد كبير.. ثمة مفارقات تنهض على خلفية شراهة التملك، وتتبلور في تلك العبارة (احفظ مالك وكن وجيهاً)..!!

1
احفظ مالك
هي مزرعة سعيدة بلا شك، حيث يتوفر لها التمويل، والكهرباء، ولا تصطدم بعقبة الإعسار.. هي مزرعة مترفة على كل حال.. تترقرق المياه بين جداولها حتى في أيام الصيف والمحل، ويتولد على امتداد سراباتها أكثر من سؤال؛ فهل هي للوجاهة الاجتماعية أم أنها ضرورة حياتية، أو يمكن أن تتجسد فيها عبارة (أحفظ مالك).

على العموم ثمة جدل كثيف انطلق على إثر ظاهرة اقتناء الساسة للمزارع، على النيل وفي الأراضي المطرية، وداخل ولاية الخرطوم أيضاً، لكن شراهة التملك لا تمنع من رصد مؤشرات أوليةٍ إيجابية، لعلّ أكثرها وضوحاً الاهتمام بوسائل الإنتاج عوضاً عن الاستهلاك.

2

* عناية بالأرض

لا تزال الذاكرة تحتفظ بعبارة نائب الرئيس الأسبق الراحل الزبير محمد صالح حين قال بطريقته المعهودة: “يا أخوانا ﻧﺤﻨﺎ بسيطين ﻭأوﻻﺩ ﻣﺰﺍﺭﻋﻴﻦ ﻟﻮ شفتونا ﺭﻛﺒﻨﺎ ﺍﻟﻌﺮﺑﺎﺕ ﻭﺑﻨﻴﻨﺎ ﺍﻟﻌﻤﺎﺭﺍﺕ أﻋﺮﻓﻮﻧﺎ فسدنا”.. ما يهم في هذا الاعتراف أن الثورة خرجت من رحم الجدول، واليوم تكتمل الرواية مع الرئيس البشير، حيث يتضح أن لديه خبرة في مجال الزراعة، ويمتلك العديد من الأفدنة.. في الحقيقة يمضي الرئيس عطلة نهاية الأسبوع بشكل معتاد في مزرعته بالسليت، يرعى ويسقي وفي الغالب يأكل من ثمار ما صنعت يداه، غير ما يمكن أن تعنيه تلك الصورة لرئيس وهو محاط بالأشجار وواحل في طين الجداول أن ثمة دولة يضيرها أن لا تحفل بأرضها المروية، وهنالك العديد من الرسائل التي تهبط بين الحين والآخر في بريد الوزراء ومجامع الدستوريين، خلاصتها تحرض على العودة إلى الجذور والعناية بالأرض.

3
مزرعة لكل سياسي
في الطريق الطويل الممتد ما بين شمال الخرطوم ومحلية الكاملين، تلتقط عيناك عشرات الأفدنة المسورة، لو سألت عن أصحابها فستكتشف أن فيهم كبار المسؤولين، لن يدهشك إذا بدت لك الأرض مخضرة على مد البصر، وقال لك قائل إن نائب الرئيس السابق علي عثمان يهبط من سيارته نهاية كل أسبوع ويتفقد مزرعته على تخوم (الباقير)، نعم هو محام بالأساس، لكنه مفتون بالزراعة، ليس مهماً في هذا التقصي متى اشترى مزرعته وبكم؟ لكن بالنسبة لنا هو سياسي بارز يمتلك مزرعة ويفهم في الزراعة، ومع ذلك قد تسمع من يعلق لك بصوت خفيض: طالما هم يحبون الزراعة فكيف فات عليهم أن لا يحافظوا على مشروع الجزيرة والعديد من المشاريع الزراعية التي نهضت بالبلاد يوما ما؟ حسناً، تلك هي مزرعة علي عثمان، عالية باسقة وهنالك مزرعة الراحل عبد الوهاب عثمان ومزرعة الدكتور نافع علي نافع. في أصقاع أخرى من البلاد ربما تجد مزرعة للمتعافي، وكثيرون مثله. الأخير هو الراعي الرسمي لتجربة القطن المحور وراثياً، وعندما كان يتبادل الحوار مع الفلاحين هنالك كان يحدثهم حديث العارف بالفلاحة، ولم يأت اختياره وزيراً لها في آخر تجربة اعتباطاً، ومع ذلك لم يترك سيرة طيبة وسط المزارعين، إنه أمر محير على كل حال!

4
* بوبار سياسي
الأمر بالنسبة لعبد الله بدري النائب البرلماني الشهير لا يخرج من أوجه (البوبار) المعروفة، لأن معظم تلك المزارع عبارة عن (منتزهات) تتوفر فيها كل أسباب الراحة وليست رافداً للإنتاج، يقول عبد الله إن هؤلاء ليسوا بمزارعين حقيقيين وانما حاولوا أن يقلدوا الرئيس عندما علموا أنه يتملك مزرعة ناجحة، إذن، الحكاية هي نوع من التقليد والتفاخر، واصطحاب الأسر في نهاية الأسبوع، لكن عبد الله يعود ويؤكد أن تلك المزارع تضاعف الدخل وتعتبر نوعا من الاستثمار، علاوة على أن السودان بلد زراعي ومستقبله في الزراعة، ومع ذلك فالعمل في الزراعة صعبة وتحتاج إلى إمكانيات وتمويل، لعل المسؤولين ينتبهون لذلك عندما يصطدمون بتلك العقبة، عبد الله أيضاً يتوقع أن تنتقل ظاهرة امتلاك المزارع إلى الساسة الصغار كنوع من الموضة مثلما انتقلت لأصحاب (البزنس) ما يرجح ارتفاع قيمة الأرض، وبالخصوص التي تطل على النيل، سيما وأن الفدان الواحد على النيل لا يقل سعره عن ثلاثين ألف جنيه، والساسة الذين جرى ذكرهم يمتلكون ما بين ثلاثين إلى أربعين فدانا وأكثر، هي ثروة كبيرة دون شك! يضيف رئيس كتلة نواب الجزيرة أن الأرض أضحت لمن يدفع أكثر وليس لمن يفلحها، كما أن القانون لا يقيد هؤلاء بزراعة محاصيل وأنواع معينة من الفواكه والخضروات، ولا علاقة للمزارع الخاصة بالخطة الزراعية والتركيبة المحصولية، فضلاً عن ذلك هناك اتجاه لكهربة المشاريع الزراعية. وبدا عبد الله كأنه يدافع عن نفسه وهو يجزم أنه نائب برلماني لأكثر من 17 عاما ومع ذلك لا يمتلك مزرعة مثل البقية.

أما الظاهرة برمتها بالنسبة للخبير الاقتصادي والكاتب الصحفي محجوب عروة فهي عبارة عن بزنس، يطلق عليه عروة مسمى (احفظ مالك)، يضيف الرجل أن تملك الأراضي الزراعية مسألة قديمة، وبالخصوص عند طائفتي الختمية والأنصار، وهو يعتبر أن الإسلاميين قلدوا عائلتي المهدي والمراغنة في ذلك، عروة يطرح مفارقة لافتة، وهي أن الساسة الحكوميين رغم نهمهم في امتلاك المزارع إلا أنهم لا يبدون اهتماما بالزراعة، وحال مشروع الجزيرة ينبئ عن ذلك، كما أن أوضاع الإنتاج في كل السودان في تشهد تراجعاً مخيفاً.

5
* “بابور” كرم الله
هناك في ولاية القضارف تشهق قناديل السمسم والذرة، المفارقة أن ثمة رجلا مثيرا للجدل، إذا ما قدر له أن يبث لواعجه في كراسة اعتراف، فهل يتمنى حياة القصور أم هو مفتون بجغرافيا أخرى؟ لن يشعر الشيخ كرم الله عباس بالحرج وهو يقر بأنه أكثر ما يشعر بالسعادة عندما يصعد على ظهر (بابور) يمخر في أعماق الأرض، لكرم الله بالطبع مزارع متاخمة للحدود الإثيوبية، يمضي الأيام والشهور هناك، صيته الباهر حصل عليه جراء ذلك الاهتمام، يبدو كرم الله محبوباً لأبناء القضارف، وأكثرهم تربالة.. مزرعة كرم الله عباس الشيخ يطلق عليها في جنوب القضارف (الصعيد) البيت الأبيض كناية عن دورها السياسي ومبناها الذي يحمل ذات لون البيت الأبيض الأمريكي، وهي بخلاف معسكرات (كنابي) المزارع الأخرى مزودة بكل سبل الراحة وتقنيات الاتصالات، يتخذها عباس ملاذا آمنا من ملاحقة العمل اليومي في السياسة والحكم ويزورها باستمرار، لكنها في مرات عديدة تتحول لثكنة سياسية يهاجر إليها السياسيون إما طالبين ودا وقربى من الوالي السابق للقضارف أو لرجاء كرم الله نفسه الذي يتحصن بها عندما يدخل في خلاف مع إخوته في الحكم.. وطالما شهدت مزرعة عباس التي ترقد على الحدود السودانية الإثيوبية وفودا من كل القيادات السياسية.

هذه الأيام تعج مزرعة عباس بخبراء ومستثمرين يوفدهم الرجل الذي يملك حوالي (200) ألف فدان لوحده يسخرها للزراعة المطرية ويديرها من (كمبو) البيت الأبيض لأجل ترقية العمل الزراعي، أما الدلالة الأبرز فإن مزرعة عباس محصنة من طلعات وهجمات (الشفتة)، رغم آرائه الحادة في ما يتعلق باغتصاب المزارعين الإثيوبيين للأراضي السودانية، فهو يوكل أعماله للإثيوبيين أنفسهم.

6
* الحنين للجروف
كرم الله ليس وحده ولكن معظم الساسة الذين ينحدرون من مناطق زراعية يشتعلون بالحنين للجروف، ما يعني أن الطبع غلاب. الجاز وأسامة عبد الله في الشمالية مارسا الزراعة يوما ما.. الراحل عبد الوهاب عثمان كان تربالا في الباطن، اقتصاديا لامعاً في الظاهر.. وممن رشح اهتمامهم بالزراعة والتجارة وزير المالية السابق والذي ازدهرت في فترته مشاعر السخط جراء الغلاء الماثل، حتى خرج الناس في الشوارع شاهرين هتافهم، وفوق ذلك ظل يبذل النصح متى أطل على جمع من الناس بالعودة للزراعة ورفع معدلات الإنتاج، علي محمود الذي افترع خيط الزهد في إكمال المشوار ساعتها – أو بدا زاهداً – كنوع من توظيف الدراما السياسيّة، كان قد حمل حملاً في ما بعد إلى تسليم مفتاح الخزانة، وعاد إلى مهنة التجارة، يبتغي منها الربح، وهي المهنة التي عمل فيها قبل أن يكون محاسباً، بحكم التخصّص، ولحق به المتعافي؛ صاحب المشروعات الضخمة. قطعاً لم يفكّر المتعافي في ممارسة مهنة الطبّ لتقديرات خاصة، ولكنه في الغالب وجد نفسه في مجال الزراعة والتجارة.

ما يمكن قوله إن هجمة كبيرة على المزارع يشهدها الوسط السياسي وعالم رجال (البزنس)، لكن الملاحظ أن معظم هؤلاء يمتلكون مزارع ولا يمارسون الزراعة، بعضهم يحوز الأفدنة كنوع من الوجاهة الاجتماعية، والبعض الآخر يشعر بأن هذه الحقول ستزدهر في يوم ما بوجوده ولن يحتويه حضن سواها.

عزمي عبد الرازق
صحيفة اليوم التالي


تعليق واحد

  1. انت تعرف جمال عبدالناصر قلب الحكومه علشان شنوا …ماعشان البشوات المالكين الاراضى ومابزرعوها …نظام الفخفخه والحاجات دى …نحن محتاجين لى واحد زى جمال عبدالناصر ..اى زول مابزرع ارضوا تتصادر لصالح الدوله …حتى لو كان عمر البشير نفسوا…هسه الاراضى من الخرطوم لحدى الكاملين مسوره وزراعه اى كلام عشان اصحابها مامحتاجين …اما المزارعين الاصلين قاعدين فى البيوت اتفرجوا ساكت..الاصل فى الارض ملك للدوله وتعطى لمن يفلحها ولا شى غير ذلك ..؟