د. ياسر محجوب الحسين

أحكام مصر تكشف سوءة الخرطوم


ألا ليت شعري وخطوب الخرطوم كثيرة، كانت أحكام الإعدام المتعسفة التي صدرت بحق الرئيس المصري المغدور محمد مرسي وآخرين اختبارا وكشفا جديدا لسيولة المواقف المبدئية لحكومة الرئيس عمر البشير، حين اعتبرت الخارجية السودانية الأسبوع الماضي أن ما يحدث بمصر شأن داخلي، وقال ناطق باسمها: إن موقف حكومته”هو اعتبار ما يجري في مصر شأنا داخليا بحتا”.. وكأنما العالم كله يتدخل في شؤون مصر الداخلية حين أدان بأجمعه تلك الأحكام باعتبارها عارا على الإنسانية.. وعلى رأس الدول المستنكرة أمريكا وألمانيا وتركيا، كما أدانت الأحكام منظمات حقوقية، حيث اعتبرته منظمة العفو الدولية الأحكام “تمثيلية تستند إلى إجراءات باطلة”.. إذن فقط الخرطوم هي التي ترعى وتصون شؤون الغير الداخلية.. لقد زجت حكومة البشير بالمبادئ في قبو ظلمات التردد وربما الخوف الهستيري من ردة فعل حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي تعاني وتكابد عزلة دولية متزايدة.
لو أن الخرطوم تحلت بقدر من يسير الشجاعة وعبرت عن “قلقها” وليس بالضرورة أن تقول “قلقها البالغ” حرصا على مشاعر حكومة السيسي، لما أصابها شيء مما تخاف وتحاذر فالقاهرة غارقة حتى أذنيها في اللوم والانتقاد الدوليين.. وكما يقول المصريون: “الحرامي في رأسه ريشة”، فإن الخرطوم غارقة كذلك في عقوق شعبها والبطش به.. ولا يبدو أن حكومة الخرطوم تعلم أنه لا أحد يستطيع ركوب ظهرها إلا إذا كانت منحنية.
ولقلة العقلاء في نظام الخرطوم أو لانعدامهم، فلا يُعرف عدد الحمقى الذين اتبعوا هواهم وكان أمره فرطا، متخذين من البراغماتية الضحلة مسوحا يلبسونها.. وليس مدهشا أن يتسيّد الخلط والتداخل تصريحات المسؤولين السودانيين مما يشير إلى ارتباك حكومة الخرطوم في سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء. حتى انتقاد البشير بجرأة كبيرة للتنظيم الدولي للإخوان واعتباره مهددا لأمن الخليج إبان زيارته الأخيرة للإمارات، لا يتعارض ذلك مع إظهار موقف أخلاقي ومبدئي ضد أحكام الإعدام في مصر.. وحتى مع قوله للصحافة الإماراتية: “لست إخوانيا وليس لدينا علاقة تنظيمية بهذه الجماعة”.
لقد حاولت الخرطوم هذه المرة تبادل الأدوار مع الحركة الإسلامية السودانية، التي كانت مرجعية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم لكنها تحولت لمجرد ذراع دينية مهيضة الجناح، فقد أصدرت بيانا قالت فيه إنها:”تدين بأقصى عبارات الاستنكار ما جرى من محاكمات للرئيس المصري السابق محمد مرسي وقادة الإخوان المسلمين بمصر وتأسف لما صدر من أحكام بالإعدام لرئيس منتخب وقيادات حزب حائز على ثقة الشعب المصري بالأغلبية”.
مخرجات آخر مؤتمر عام للحركة الإسلامية تشير إلى دور ضبابي أو هلامي للحركة كمرجعية للحكم، وخطاب البشير أمام المؤتمر حدد إطاراً لعملها في الفترة القادمة، وحصر الإطار عمل الحركة في مجال الدعوة والإصلاح الاجتماعي، أي أن “البشير” دعا الحركة بوضوح للبعد عن السياسة، واليوم يشير إليها بإصدار بيان هزيل يرفع عن حكومته إثر ذلك الموقف المخزي من حكم إعدام الرئيس مرسي.
ربما كان موقف رئيس حزب الأمة القومي المعارض الصادق المهدي من حكم الإعدام هو الأقوى رغم عدم وجود أي آصرة فكرية تربطه بالإخوان المسلمين، بيد أنه رأى في ذلك موقفا مبدئيا وأخلاقيا، فقد التمس المهدي من السيسي إصدار عفو شامل عن المحكومين بلا تأخير أو مساومة، بعد أن يكمل القضاء كلمته، “ما يفتح المجال لحث الإخوان على المراجعات المنشودة، ويعزل المعتدلين عن الغلاة، فالقاعديون والداعشيون يكفرون الإخوان لقبولهم آليات الترجيح الديمقراطية أسوة بتكفير سائر المسلمين الذين لا يتبعونهم”.
ونصح المهدي، الرئيس المصري بالأخذ بمفهوم “العدالة الوقائية”، قائلا: “ولا نود أن نخوض في القوانين ولا في صلاحيات القضاء ولكن للعدالة أكثر من وجه”، وتسأل “لكن ماذا إذا تسبب الالتزام بالعدالة الجنائية في فتح المجال لتجاوزات تعرض المجتمع لمزيد من الاضطرابات؟”.
ربما لم يعجب البشير أن يتفاخر الإسلاميون في مصر من قبل على الإسلاميين في السودان بأنهم جاءوا عبر صناديق الاقتراع عقب ثورة شعبية أطاحت بنظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، بينما جاء الإسلاميون في السودان عبر انقلاب عسكري في يونيو 1989م وهذه تعتبر واحدة من أهم أوجه الاختلاف بين الطرفين.. والطريقة التي قفز بها السيسي للحكم عنوة هي ذاتها الطريقة التي قفز بها البشير للحكم في السودان.


‫2 تعليقات