حوارات ولقاءات

القيادي الجنوبي البارز وأول وزير إرشاد في “الإنقاذ” في حوار :لهذا السبب اخترت الذهاب مع “الترابي” بعد حدوث المفاصلة الشهيرة…!!


المقدمة
رغم انفصال الجنوب، وذهابه مع من ذهب إلى الدولة الوليدة، وشغله لمنصب وزير الكهرباء تارة ووزير البيئة تارة أخرى، ما زال الأستاذ “عبد الله دينق نيال” يحتفظ بمسكنه بالخرطوم، وما زال يحتفظ بكل علاقاته سواء مع الحكومة أو المؤتمر الشعبي الذي كان من قياداته بعد المفاصلة.
الأستاذ “عبد الله دينق” عاد إلى الخرطوم- مؤخراً- طالب دكتوراه.. حاولنا أن نجري معه حواراً سياسياً إلا أنه اعتذر عن الحديث في السياسة طالما أصبح مواطناً أجنبياً، ووافق على إجراء حوار اجتماعي أو فتح الملفات القديمة حينما كان وزيراً ورائد البرلمان ووالياً لولاية النيل الأبيض.. تناولنا معه العديد من الموضوعات ابتداءً من مولده ونشأته ودراساته، وكيف التحق بالحركة الإسلامية، وكيف التحق بالإنقاذ، والمناصب التي تقلدها خلال الفترة التي كان بها قبل المفاصلة، ولماذا ترك المناصب وذهب مع الأمين العام للمؤتمر الشعبي، وكيف نمت علاقته مع الدكتور “حسن الترابي” ومن الذي قدمه ليكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية في انتخابات 2010م.. وهل كان متوقعاً أن يفوز بالمنصب؟ والعديد من الأسئلة المتعلقة بالفن والرياضة والمدن الداخلية والزواج عند قبيلة الدينكا، ووراثة الأب في زوجاته إذا توفي.. نترك القارئ مع إجابات الأستاذ “عبد الله دينق” حول ما طرحنا عليه من أسئلة.

{ “عبد الله دينق نيال” عن قرب؟
_ أنا “عبد الله دينق نيال أيوم نيال” من بور بولاية جونقلي أماً وأباً.. ولدت في بور لكنني نشأت في مدينة الرنك بولاية أعالي النيل. في ذلك الوقت كانت تسمى مركز الرنك، شمال أعالي النيل في منتصف الخمسينيات.. تعليمي الابتدائي في الرنك.. والوسطى كذلك، والثانوي في ملكال الثانوية.
{ الانتقال من ولاية جونقلي إلى أعالي النيل؟
_ والدي أساساً كان معلماً في الثلاثينيات والأربعينيات في مدارس “البوش اسكول”.. وكانت مدارس تبشيرية، درس فيها عدد من كبار المسؤولين أمثال “جوزيف لاقو” وآخرين من كبار الساسة، وبعد أن ترك التدريس عمل كاتباً في المحاكم يكتب ما يدور في المحكمة. ثم ترك ذلك وعمل مع أحد التجار، ولم تنجح التجارة وجاء إلى مدينة الرنك وعين في وظيفة ما يسمى بملاحظ عمال الطرق، يكتب يوميات عمال الطرق في مجلس ريفي الرنك.. كان ذلك في أواخر الخمسينيات، لذلك جئنا إلى الرنك وأنا صغير، وتربيتي وتنشئتي كلها ترجع إلى مدينة الرنك.. بعد ذلك عندما امتحنا من المدارس الوسطى، كما كان يسمونها، وفيما بعد أصبحت الثانوية العامة، قدمت للقوز الثانوية والخرطوم القديمة ووادي سيدنا. وكان التوزيع بالراديو في ذلك الزمان سمعت اسمي موزعاً إلى مدرسة ملكال الثانوية، وأنا كنت في غرب السودان وكنت أعمل عامل دريسة في محطة “جبل أبو كوة” وهي محطة صغيرة يقف بها القطار.
{ امتحنت المرحلة الوسطى للثانوي من الرنك؟
_ لا سمعت النتيجة بالراديو، وكانوا في ذلك الوقت يذيعونها.. يعني من الوسطى إلى الثانوي.
{ ولكنك تتحدث اللغة العربية بطلاقة؟
_ نعم.. منطقة الرنك كانت اللغة المشتركة أو لغة التواصل فيها هي العربية البسيطة. وبالتالي أنا منذ نشأتي أتحدث لغة عربية وحتى داخل البيت أتكلم بالعربي البسيط، وبعد ذلك في المدارس كان التعليم باللغة العربية الفصحى.. هذا كله ساعد على تعلمها.. الناس يتحدثون العربية في الرنك وهي لغة التواصل لكل القبائل المختلفة في السودان، وموجودة هناك مثلما هي موجودة في مدن السودان المختلفة.. وعند كل تكوينات وقبائل السودان موجودة.
{ بعد المرحلة الثانوية؟
_ عملت مدرساً لأربع سنوات، بعدها ذهبت في بعثة إلى مصر.
{ كيف ذهبت إلى مصر؟
_ كانت وزارة الشؤون الدينية قد أصدرت إعلانات في ملكال وجوبا فحواها “أنهم يريدون ناس يدرسوا في الأزهر” وتكون لديهم شهادات سودانية.. وقدمنا واختارونا.
{ كيف كان وجودك في القاهرة؟
_ كانت أول مرة نغادر الخرطوم شمالاً.. ركبنا القطار وذهبنا إلى وادي حلفا، وأول مرة نرى الصحراء وركبنا “البابور”، ووصلنا أسوان ومنها ركبنا قطاراً.. ولم نكن نعرف أن اسمه “القشاش”.. وعندما وصلنا القاهرة قررنا ألا نركبه مرة أخرى لأنه في الطريق يحمل الناس مع البط والزحام والبيع والشراء، فلا تجد راحتك.
{ هل تذكر من كان معك في الرحلة؟
_ كان معي مجموعة من الجنوبيين، منهم “سعد الصادق”، وكان معنا أيضاً “محمد مرجان” و”بشير بندي” و”خضر جمعة” وآخرون.
{ بعدما وصلت القاهرة أول محطة لك؟
_ أولاً لم تكن لدينا فكرة عن الطقس، كنا نلبس ملابس خفيفة والجو كان بارداً لأننا وصلنا يوم 26/12/1976 في محطة باب الحديد رمسيس، وهذا عز الشتاء، وركبنا ونزلنا في فندق مقابل لمسجد سيدنا الحسين.. فندق جديد لا اذكر اسمه، بعد يومين أو ثلاثة نقلنا إلى مدينة الأزهر، في يوم 1/1/1977، سكنا في مدينة البعوث وانتسبنا إلى الكليات لكن في السنة التأهيلية، لأننا نحمل شهادات ثانوية وليست أزهرية، وعددت نفسي في جامعة الأزهر كلية اللغة العربية.
{ جو القاهرة وأنت طالب صغير؟
_ كانت مدينة كبيرة رغم أنني قادم من الخرطوم عاصمة السودان، طبعاً الزحام والبرد شديد جداً والضوضاء ملحوظة.. أول ما تذهب القاهرة ستجد هذه الضوضاء والزحام في البصات.. ولسوء حظنا كان هنالك بص واحد.
{ هل خلقت علاقات بينك وبين الأخوة المصريين؟
_ نعم أصدقائي في الدراسة، وأذكر منهم الدكتور “عبد الباسط الطاهر”، وسألت عنه في العام الماضي وعلمت أنه في المملكة العربية السعودية.. كان لنا زملاء كثر، لكن هذا كان لصيقاً بنا وكان يسكن جوار مدينة البعوث.
{ كيف كانت الحياة في ذلك الوقت؟
_ مدينة حية وقديمة وتاريخية تنبض بالحياة طوال اليوم، وكنا نسمع ونقرأ أن المدينة لا تنام، ووجدنا ذلك حقيقة، وفيها حركة حتى الصباح.. وقمنا بزيارات للزملاء الذين يسكنون خارج المدينة.. وكانت بخيرها وفيها رخاء.
{ المدن التي لفتت انتباهك؟
_ من حيث الحياة والحيوية القاهرة بالطبع، ومن حيث الهدوء والشواطئ الإسكندرية.. لكن من حيث الجمال والأناقة فسنغافورة بالقرب من ماليزيا.
{ طيب.. بعد أن أنهيت الدراسة؟
_ عندما ذهبت إلى الجامعة كنت منتدباً من وزارة التربية والتعليم، لذلك عندما انتهيت من الدراسة عدت إلى وزارة التربية والتعليم في المدارس وعملت في الرنك الثانوية، لكن عملت بها لعام فقط.. ففي سنة 83 جئت لمعهد الخرطوم الدولي للماجستير في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من 83-85 في الخرطوم.
{ بعد معهد الخرطوم.. ما هي المحطة التالية؟
_ عدت إلى الجنوب بعد أربعة أشهر، عُينت في كلية التربية شعبة اللغة العربية في أكتوبر 85 محاضراً مساعداً، وكنت أحمل “ماجستير” في ذلك الوقت.
{ عندما اندلعت الحرب بين الشمال والجنوب كيف كان إحساسك؟
_ وقتها كانت الحرب قد بدأت لتوها ولم تأخذ طابعها الحالي، وكانت الحياة عادية.
{ بعد ذلك دخلت في الجانب السياسي.. متى انتميت للحركة الإسلامية؟
_ كنا مؤيدين للحركة الإسلامية الطلابية في القاهرة، ولو تذكر كنا في رابطة طلاب الكليات النظرية في جامعة الأزهر، وعندما جئنا شاركنا في تأسيس الجبهة الإسلامية القومية.
{ من الذي جندك؟
_ تم ذلك من القاهرة.. من الجامعة.. وشعرت بأن هنالك يساراً، وهنالك أناساً يسمون أنفسهم الحركة الإسلامية، وأنا مسلم لذا من الطبيعي أن أنحاز إلى جانبهم.. ولا أتذكر أن شخصاً بعينه جندني.. وجئت بعد ذلك ساهمت في تكوين الحركة الإسلامية.
{ كيف كان عمل التنظيم الإسلامي؟
_ لا توجد علاقة مباشرة، لكن كنا نتقابل في الاجتماعات خاصة بمكتب الجنوب، وكان على رأسه الشهيد “أحمد الرضي جابر”.
{ كنت من المقربين لـ”الترابي”؟
_ لا.. لم أكن من المقربين.. ولم تكن لي صلة قريبة منه، وكنت عضواً موجوداً في مكتب الجنوب، وكان له مكتب متكامل وله عضوية وكانوا يعتنون بهذا الجزء لأن به حرب.. وكنا على صلة بالعاملين في الوكالة الإسلامية للإغاثة.
{ عندما جاءت الديمقراطية الثالثة.. أين كنت؟
_ كنا وقتها موجودين في مكتب الجنوب.
{ لكن لم تبرز كسياسي لك دور بارز إلا عندما جاءت الإنقاذ؟
_ لأنه كان هنالك أناس كبار أمامنا، منهم “أحمد الرضي جابر” و”علي تميم فرتاك”.. هؤلاء إسلاميون جنوبيون وأكبر منا.. لكن في 30 يونيو، وفي اليوم الثاني جاءني الشهيد “فضل السيد أبو قصيصة” وقال لي أنت ستشارك في الحكومة القادمة والانقلاب ما زال عمره يوم، وقلت له لماذا تريد إدخالنا في هذا ونحن ما زلنا شباباً؟ وكنت قلقاً.. وبعد أسبوع جاءني “عبد الرحيم محمد حسين” ومعه شخص آخر، لا أتذكره لأنني كنت قلقاً جاءاني في جامعة جوبا، وكنت خرجت إلى معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، وكان يلبس “لبس خمسة” (العسكري) وعندما حضرت إلى الجامعة قالوا لي: (ناس الانقلاب جو هنا يسألوا منك). وبالفعل حضرا عندما كنت في الكافيتريا وسلمت عليهما، وعرفاني بأنفسهما، واستأذنا من دكتور في معهد الدراسات الأفريقية وقالا له: (نريد التحدث مع عبد الله)، فقال لي “عبد الرحيم” إنك ستكون وزير وزارة الإرشاد والتوجيه، وهي مكونة من الأوقاف الدينية والزكاة والشباب والرياضة، قلت: كيف ذلك وهذه إدارة كبيرة؟ وكيف أكون وزير شؤون دينية ولم أتزوج بعد؟ فقال لي: لا نريد نقاشاً جئنا “نعطيك علم”.. وذهبا.
وفي يوم 9 يوليو كان أداء القسم.. فذهبنا.. ولم أعرف أحداً من الوزراء الآخرين، وكان يوماً تاريخياً.. بعد ذلك شعرنا بأن المسؤولية كبيرة وأصابنا همّ مع القلق.
{ إلى أين اتجهت؟
اتجهت إلى وزارة الشؤون الدينية.. وأمضيت أربع سنوات من يوليو 89 إلى فبراير 93.
{ ما محطتك بعد الشؤون الدينية؟
– أنشئت وزارة جديدة سموها السلام وإعادة التعمير، وتم اختياري لها وزيراً من مايو 93 إلى فبراير 94.
{ هل تتم مشاورتك عند تعيينك في أي منصب.. وكيف تم اختيارك والياً للنيل الأبيض؟
–    فوجئت بأنني عينت والياً لولاية النيل الأبيض، ولم يشاوروني هذه المرة.. في الوزارات السابقة شاوروني.
{ كيف كانوا يخطرونك من قبل؟
_ في المكتب المختص يطلبونك ويخبرونك، الرئيس أو النائب الأول، ويقولون لك سيحدث كذا، وسيتم نقلك من هنا إلى هناك.
{ وذهبت إلى النيل الأبيض؟
_ وقتها كنت في إجازة عندما كنت وزيراً للسلام، لكنني فضلت الذهاب إلى الولاية أولاً، بعد ذلك أواصل إجازتي. وكانت الولاية هماً أكبر، ووجدت العمل كثيراً. وأنا الآن أسمع الناس يتحدثون عن اللا مركزية وهذا نظام فاعل جداً، ويجعل ظل الإدارة قريباً من الناس لحل قضاياهم.. فالحكم الفيدرالي مهم جداً في بلد مترامي الأطراف وواسع مثل السودان.
{ لماذا تم إعفاؤك من الولاية؟
_ لقد أخطرني النائب الأول ووقتها كنت موجوداً في الولاية.. والغريب في الأمر أن الذين تم إعفاؤهم كانوا معي في المكتب. وتسلمنا برقية من النائب الأول جاء فيها: “السيد والي ولاية النيل الأبيض والسيد وزير التربية والتعليم والسيد وزير الزراعة، عندما يصلكم هذا المكتوب امثلوا أمامي في القصر الجمهوري فوراً”. فقلت لهم: أنتم (مرفودين)!
{ هل تذكرهم؟
_ كانوا المرحوم “محمد عثمان محجوب”، شقيق “السعيد” وكان وزير التربية والتعليم وينوب عن الوالي، و”أحمد مركز أحمد” وكان وزير الزراعة.
{ بعد ذلك ذهبت إلى أين؟
_ بقيت لعدد من الأشهر، وذهبوا بي إلى البرلمان رائداً للمجلس، أحد ثلاثة رواد للمداولة في البرلمان، الدكتور “تاج السر مصطفى” والدكتورة “خديجة مختار” وقسمونا: “تاج السر مصطفى” مسؤول عن القطاع الاقتصادي وأنا مسؤول عن القطاع السياسي، ودكتورة “خديجة” القطاع الاجتماعي.
{ بعد ذلك جاءت المفاصلة؟
_ في 98 أصبحت رئيس لجنة السلام، وكان ذلك في رمضان، وقد ذهبت إلى اليمن بتكليف من منظمة الدعوة الإسلامية، وكانت لديهم حملات لاستقطاب الأموال لمنظمة الدعوة في أفريقيا، وعندها حصلت المفاصلة.
{ هل كنت تتوقع حدوث المفاصلة.. وهل كانت هنالك مناقشات؟
_ كانت هنالك نقاشات في موضوعات مختلفة.. انتخاب الولاة ورئيس مجلس الوزراء للمثول أمام البرلمان.. وحدث ما حدث.. وأنا اخترت جانب شيخي “الترابي”.
{ الناس ذهبت إلى المال والسلطة لماذا ذهب مع “الترابي”؟
_ لأننا مع المبادئ.
{ ثم ماذا بعد؟
_ أنشأنا حزبنا “المؤتمر الشعبي”، وأنا أصبحت رئيس مجلس الشورى وبعد مدة أصبحت نائب الأمين العام.

 

 

 

المجهر السياسي